أحبار الكنيسة.. وحقائق التفليسة!

/ جورج علم /

إنه كانون. والسهرة “ميلاديّة” حول موقد، تشرئب ناره تحت سقف من القرميد الجريح، متعالٍ فوق منبسط أحدب، تحيك له صنّارة النفناف قميصاً من البياض، فيما تعزف الريح “سمفونيّة” الهزيع الأول من ليل عاصف.

كانت الحلقة ضيقة، لكنّها مختارة، تضمّ وجوها صاحبة رأي متزن، خلاصة تجربة عميقة، وثقافة وثيرة. واقتصرت “المقبّلات” على عوارض المرض الذي ينخر في عظام الوطن.

أما الطبق الرئيسي، فكان البيان الختامي للدورة 55 لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، والذي انعقد في بكركي ما بين 7 إلى 11 تشرين الثاني الماضي، والتركيز على الخلاصات التي توصّل إليها بعض الحضور، نتيجة جهد بذله، لدرس بنوده، وتفلية مضامينه.

لقد أكّد الأحبار الكاثوليك في بيانهم “أن الغرض من الدورة يتمركز على مفهوم العيش معاً اليوم، بعد 25 سنة على صدور الإرشاد الرسولي، على مستويات أربعة: إدارة التنوع. تآلف الاختلاف. تنقية الذاكرة. الحوار والمصالحة”.

فتحت هذه المقدمة باب النقاش حول عوارض المرض الخبيث، إنطلاقاً من سؤال: ماذا تحقق خلال الـ25 سنة التي انقضت على إعلان الإرشاد؟ وماذا تغيّر؟ وهل كان الهدف من الدورة مجرّد احتفال بمرور ربع قرن على صدوره، أم فعل توبة، ويقظة ضمير حول ما فات من سنوات من دون تحقيق خطوات ملموسة؟

إن لبنان اليوم، كما جاء في البيان، “يتعرّض لأزمة خطيرة تهدد كيانه، وهويته. لكن لا خوف عليه لأنه حقيقة حيّة في التاريخ، ولأن جميع اللبنانييّن باتوا يعترفون أنه وطن حرّ مستقل ونهائيّ لحميع أبنائه. ولأن العالم يعترف له أنه مهد حضارة عريقة، وبلد التعدديّة، وأمّة حوار وعيش مشترك، وأنه أكثر من وطن، إنه رسالة حريّة، وتعددية للشرق كما للغرب، ولكن من واجب كل المواطنين الولاء لهذا الوطن النهائي”.

لقد دار نقاش حول هذا البند، وأفرز خلاصات ثلاث:

الأولى، ما هي الضمانات التي تبدّد الخوف عن لبنان الذي يتعرّض اليوم “لأزمة خطيرة تهدد كيانه وهويته؟”. هل هي الوحدة الوطنيّة التي تفكّكت إلى جزئيات فئويّة، وطائفيّة؟ أم الدستور الذي تحوّل إلى وجهة نظر؟ أم القوانين التي تطبق وفق أهواء المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة؟

الثانيّة، ما انتفاع الأم من أبنائها إن تواروا وهي عند المقبرة؟! وما انتفاع لبنان إن كان “جميع اللبنانيين باتوا يعترفون أنه وطن حرّ مستقل ونهائي لجميع أبنائه”، فيما المؤتمنون على مقدّراته ـ بغالبيتهم ـ قد نهبوه، وصلبوه على خشبة الفساد، وأمعنوا ويمعنون بإقتسام ما تبقى لديه من رمق؟!

الثالثة، إن مسألة “الولاء لهذا الوطن النهائي”، هي مجرّد سلعة في سوق “المال والقبّان”. لماذا لا يقال بشجاعة أن الولاء للبنان، وعند الجميع ـ ولو بنسب متفاوتة ـ يأتي في المرتبة الثالثة، أو الرابعة، بعد الولاء لهذا الخارج، أو ذاك، ولهذه الطائفة، أو تلك، ولهذا الزعيم، أو الإقطاعي، أو المتسلط… وأخيراً وليس آخراً، الولاء للمصالح الخاصة للجماعة، والمحاسيب؟!

ومن المعيب أن غالبية اللبنانيين يصفّقون للشعارات الرنّانة، الطافحة بالسيادة، فيما أصحابها “تجّار ولاء”، يقدمون خدماتهم لصالح هذا الخارج، أو ذاك، مقابل الدعم المالي والمعنوي. لقد حوّلوا الوطن إلى شركة مساهمة لتبادل المصالح مع الخارج!

ومن عوارض المرض القاتل، أن السادة أحبار الكنيسة الكاثوليكيّة، وبمناسبة مرور 25 سنة على صدور الإرشاد الرسولي، “يرون من الضروري أن تقف كنيستنا بشجاعة، وجرأة، وتواضع، أمام التاريخ، وأمام الضمير، وأمام الله، لتقوم بفحص ضمير عميق، وبفعل توبة صادق، وبتنقية حقيقيّة للذاكرة (…)”.

إن “عمليّة تنقية الذاكرة التي كان من المفترض أن تحصل بين اللبنانيين بعد اتفاق الطائف لتضع حدّا نهائيّاً للحرب، لم تحصل، لأن المسؤولين عنها لم يستشعروا الحاجة إلى مراجعات ذاتية نقديّة ترقى إلى فحص ضمير، ومحاسبة، وتوبة، وطلب معذرة للوصول إلى حوار حقيقي، وإلى مصالحة باتت اليوم ضرورة ملحّة، لأن لبنان يمر في أخطر مرحلة من تاريخه السياسي، والإجتماعي، والإقتصادي، والمالي”.

يضيف البيان: “إن تنقية الذاكرة والضمائر هي الشرط الذي بدونه لا مكان لإجراء حوار صريح وبناء بين المسيحييّن والمسلمين من جهة، وبين الأحزاب والكتل النيابيّة من جهة أخرى، وذلك لكي تسلم المؤسسات الدستوريّة، وحقيقة العيش المشترك المنظّم بنصوص الدستور، والذي يشكّل الميثاق الوطني الذي توافق عليه اللبنانيون سنة 1943، وجددوه في إتفاق الطائف سنة 1989 ، بحيث يعطي الحقوق لكل سلطة سياسية لا تخالف مبدأ العيش المشترك…”.

تعقيباً: قد تكون النوايا صادقة، لكن ربما فات الأوان، لأن حروب الإلغاء تدار على جبهات ثلاث:

  • جبهة المسيحيين، وتحديداً الموارنة، والذي لم يستطع، لا الإرشاد الرسولي، ولا اتفاق الطائف، وضع حدّ لها، وهي لا تزال محتدمة بأبشع مظاهرها، وأقبح تداعياتها.
  • جبهة استشعار حروب الإلغاء ما بين الطوائف، منذ أن أصبح فائض القوة لدى البعض، فائض سطوة، واستئثار، وفرض قرار. وعندما يختل توازن القوى بين الطوائف، يختلّ الوطن.
  • جبهة حروب الإلغاء المفتوحة لإلغاء لبنان. فمنذ الخروج السوري، في نهاية نيسان 2005، ولغاية الآن، أمعن اللبنانيون في تدمير وطنهم، وأثبتوا للقاصي والداني بأنهم غير جديرين بإدارة وطن… ولا بدّ من “وصيّ”… أو “واصا باشا ” جديد… وتصبحون على ميلاد مجيد…