| جورج علم |
تعبت الجبهات، وتحوّلت المواجهات إلى حروب إستنزاف منهكة، ولا يقتصر الهدر على الطاقات البشريّة، بل يشمل البنى الإقتصاديّة، ويحدث تغيّيراً في السلوكيات المجتمعيّة، ويفرض قواعد عيش لتأمين سبل الإستمرار، بما تبقى من قدرة وإقتدار.
يعاين لبنان الوضع في الجنوب. يتسقّط أخبار القصف، يتابع عدد الإصابات، وأكوام الخراب والدمار. تحوّل النزف إلى “يوميات روتينيّة” بالكاد تستحوذ على تأفف، أو همهمة. المجتمع حائر صابر. الصمت زينة الرجال. والحكمة باتت محبوكة بخيوط الإستسلام، والتعايش مع الأمر الواقع بإنتظار الفرج!
كانت الغالبيّة مسمّرة أمام الشاشة، تتابع بالصوت والصورة وقائع الحدث الإيراني المأساوي. تطرح التساؤلات، وتغوص في بحر الفرضيات، لكنّها تلتقي عند رزمة من الأسئلة المصيريّة: هل من تغيير في سياسة إيران الخارجيّة؟ هل ستهدأ الجبهات المشتعلة من غزّة إلى اليمن؟ وما هي مواصفات “اليوم التالي” لتنطلق في ضوئها عمليّة إعادة البناء والإعمار، وإعادة النازحين، والعودة تدريجيّاً إلى يوميات الحياة العاديّة؟
واضح أن أحداً في الداخل لا يملك جواباً. العدوان علينا، والقصف عندنا، ومسرح الجنوب الملتهب تدير إيقاعاته “غرف عمليات خارجيّة”، حتى عند من يدّعي القوّة، والقدرة، والمكانة، ينتظر “الوحي”، و”الذبذبات” المتسلّلة من وراء الحدود، ليبني عليها سلباً او إيجاباً. وهناك من يبدي إرتياحاً للمبادرة التي قام بها الرئيس نبيه برّي عندما قصد طهران معزيّاً على رأس وفد رسمي. قد لا يسمح له الظرف بإثارة هواجسه ومخاوفه حول لبنان، والجنوب، والجرح المفتوح، والنزف القاتل، والمتغيّر الداخلي الذي يؤشر إلى تصدّع كبير، لكن في الزيارة عبرة، ولا يحتاج اللبيب الإيراني إلى “أطلس” لفك رموزها.
يصارح الزعيم “الإشتراكي” وليد جنبلاط اللبنانييّن من الدوحة بأن “الحرب طويلة..”. هذه القناعة هي الطاغية عند معظم المراقبين، لكن البنى الداخلية الصلبة تتفكك، تندثر، ويهتك بأصولها وفروعها الفساد، والمحسوبيّة، والفئوية، فلا هي قادرة على الإنتاج لسدّ الإحتياج، ولا هي مؤهلة للصمود في ظلّ تزايد “مركّبات النقص”.
وفي ذروة إنشغال المواطن بتوفير لقمة عيشه، تداهمه “انتهازيات” لا طعم لها سوى إثبات الدور، والحضور في فضاء الفراغ، وتفكك الأوصال. وتطلّ حكومة تصريف الأعمال بخطة أمنية تحت شعار “ضبط المخالفات”.
المواطن الآدمي هو المستهدف، لأن هذه الخطة أعجز من أن تهتك أسوار المحصّنات الحزبيّة، والفئويّة، والطائفيّة، والمذهبيّة، والجهويّة. إنها على قياس المواطن العادي الأعزل الذي لا يملك سقفاً حزبيّاً أو إقطاعيّاً يحميه. ومع ذلك، فإنه مع “الوسيلة..
إذا تأمنت الحاجة”، وإلا كيف تحجز سيارته بسبب عدم تسديده رسوم الميكانيك، إذا كانت الدوائر المؤهلة مقفلة؟ وكيف يغرّم بسبب بطلان إجازة القيادة، إذا كانت “النافعة” في “إجازة”؟ إن ما يجري على طرقات لبنان بحاجة إلى إعادة نظر بالتصرفات والممارسات. ومن يريد أن ينتصر للقانون، عليه أولاً أن يبني دولة القانون والمؤسسات، وينهي أحكام الفراغ الذي يجوّف البلاد، و”يبهدل” العباد!
هذا لا يعني أن ما يجري مرفوض، وأن الخطة ارتجال، أو إستغلال. على العكس إنها مطلوبة، وضروريّة شرط أن تكون عادلة، متزنة، متوازنة تسري على الجميع بحيث لا يكون صيف وشتاء على سقف واحد، لكن كيف الحال إذا كانت هناك سقوف، وساحات مباحة مستباحة مشرّعة على مساحة وطن، ودولة قرارها ليس عندها، وما عندها، هو مجرّد تصريف أعمال، وتصريف مؤسسات، وتصريف طاقات وإمكانات شبابية، وتصريف مقومات بلد “سيّد، حرّ، مستقل، متنوّع” لخدمة أهداف ومصالح خارجيّة.
إننا أمام خطة أمنية لضبط الإيقاع في الداخل، قي موازاة جنوب مشتعل، وأرتال من النازحين، وشعب حائر يقف أمام منعطف مصيري، لا يملك ضمانة، ولا يعرف ما ينتظره من تحديات، وفي جعبته رزم من الأسئلة الصعبة حول أي لبنان؟ أي مستقبل؟
أي نظام؟ وأي وحدة أرض، وشعب، ومؤسسات في ظلّ قرار مصادر، وإرادة مشلولة، وفراغ متمادي، وإقتصاد مستنزف، وفرص عمل تضيق، وقطاع مالي ومصرفي يحكمه الفاجر والتاجر والمقامر المغامر؟!
قد يكون مطلوبا القول “تصبحون على جنوب يساند”، لكن قد يصبح واقعاً القول: “تصبحون على بلد يتشلّع، ومن دون مساند”!