محمد يونس العبادي (*)
إنّ المتأمل لمسرح السياسة الدولية ومشهدياتها اليوم، والأجواء الموتورةِ التي خلقتها الحرب في أوكرانيا، وما تفرزه من خطابٍ سياسيٍ بين الخصوم، يدرك أنّ عصر القوميات لم ينتهِ بعد، وأنّ هذه الفكرة ما تزال ظلالها حتى اليوم، تقرّر الكثير من وجهة السياسة الدولية.
إنّ الحديث عن فكرة القومية، ونشأتها كان قبل نحو قرنين، وهو قائم على تشكيل اتجاهٍ سياسيٍ واجتماعيٍ واقتصادي، يعزز مصالح أمةٍ بعينها، بناءً على ما يجمعها من خصائص مشتركة.
إنّ تاريخ أوروبا يعرب عن هذه الفكرة بجلاءٍ، إذ إنّ كل قوميةٍ أوروبيةٍ شكّلت دولة، باتجاهٍ معين، بل إنّ أساس نشأة الدولة هناك استقى الكثير من مفاهيمه من طروحات القومية، التي حاولت كثيراً، وحتى اليوم، بناء اتزانٍ لا ينتقص من هوية الآخرين؛ فكانت طروحات التعددية والمجتمع المتنوع، محاولةً لترجيح كفة الميزان، بوجه أيّ طرحٍ “عنصري”.
وسط تلك الأجواء، يمكن القول إنّ الدولة الحديثة قد تشكلت، وقد ظهرت كفكرة، ورُحّلت إلينا، نحن العرب، وإن كان لهذه الفكرة صداها في تراثنا، حتى أنّ تعابيرها بقيت ماثلة في العديد من مصادرنا التي تحدثت عن العرب، وعن طبائعهم، وحروبهم، وقبائلهم، وما يجمعهم من خواصٍ، ليس كعرقٍ، وإنما كثقافةٍ رحبة.
ومن أوائل الجمعيات التي تأسست عربياً، وفي وقتٍ مبكر، وكانت ذات توجهٍ قوميٍ، الجمعية السورية عام 1847م، والجمعية السورية في بيروت عام 1868م، والجمعية العربية السرية التي ظهرت عام 1875م، وكان لها فروع في دمشق وطرابلس وصيدا.
ومع مطلع القرن الماضي، تأسست جمعيات رائدة، وكانت امتداداتها في الداخل العربي، من بينها جمعية الوطن العربي التي تأسست بباريس سنة 1905م.
لقد كان هذا الحراك العربي ردة فعلٍ على صعود القوميات، في الزمن العثماني، آنذاك.
غير أنّ المؤتمر العربي، الذي عقد في حزيران 1913م، في الجمعية الجغرافية في باريس، يعد محطة تحولٍ هامةٍ، على طريق التأسيس لهذه الفكرة العربية، وما يزال المؤرخون يعدونه المؤتمر الذي وضع أول برنامج سياسي طالب اسطنبول، حينها، بأخذ مطالب العرب على محمل الجد، والالتفات إلى ولاياتهم، وحاجاتهم، والاعتراف بلغتهم في مجلس النواب العثماني، وإشراكهم في الإدارة، إلى غيرها من المطالب.
هذه الإرهاصات، تُرجمت لاحقاً إلى حركةٍ عربيةٍ تحرريةٍ، بفكرٍ قوميٍ نقيٍ يريد الخير للعرب جميعاً، أو كما جاء في المنشور الثاني الذي أصدره الشريف الحسين بن علي، طيب الله ثراه: “إن العرب ليسوا ضد الأتراك، وإن عداءهم يقتصر على الاتحاديين الذين ألحقوا الضرر بالعنصريين”، وذلك في أيلول 1916م.
إنّ اختيار القوميين العرب، للشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه، لقيادة نهضتهم، جاء بعد نحو نصف قرن من النضال، وكان تتويجاً لجهدٍ وتضحياتٍ قدمها العرب، في سبيل بناء الوعي وإدراك الذات.
حتى كان هذا الفكر “القومي” هو المحرك لنشأة الدولة العربية، بمفهومها الواسع، وعلى أساسه تم تأسيس العديد من الدول العربية، التي استقت شرعيتها من هذا المبدأ، وبقيت أدبيات هذه الدول العربية، ملتزمةً بالعروبة كمبدأ رحبٍ واسعٍ.
وما تزال مفردات ذلك الزمن “الخالص بعروبته” حاضرةً في فكر الأردنيين، وخطاب دولتنا السياسي، وتستقي حضورها من شرعية الهاشميين العميقة الجذور، دينياً، وعروبياً.
والأردن ملتزمٌ بهذا الخطاب، وأدبياته، وهو وطن منتمٍ لأمته لطالما عمل لأجل تقديم مصالحها، والبذل لأجل قضاياها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
اليوم، لربما يمكن القول، إنّ فكرة القومية بنقاء مفرداتها، وكما أسسها الأوائل، فقدت وهجها، ولكن، مفارقات التاريخ مع الحاضر، ومجريات الخطاب السياسي المتداول، إثر حرب أوكرانيا، لربما تقودنا إلى ضرورة البحث عن هذه الفكرة، وإعادة قراءة مفرداتها. فما يزال العالم اليوم، يعيش فكرة القومية، وأجواءها، وتتحرك قواه، وإنّ لم تعرب قولاً، وإنما فعلاً، عن كيفية تأثير القومية في السياسة الدولية.
ربما غابت القومية ممارسةً، ولكنها فكراً لم تغب.