/ جورج علم /
وصل “كعك العبّاس” الى الديمان، قبيل اجتماع النواب السنة بدعوة من المفتي عبد اللطيف دريان.
ليس من رابط وثيق الصلة بين الحدثين. ولا من استهداف، أو نوايا صفراء، بل روح استنهاض للهمم، وفتح قنوات الحوار والتلاقي، ومحاولة إيجاد مساحة وطنيّة تتسع للجميع، ويشارك كلّ برأيه حول كيفية مواجهة الاستحقات المصيريّة، بأقل قدر من الخسائر.
وكان “حزب الله” مبادراً. فتح أبواب الحوار مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. ويدعم شاغل الموقع السنّي الأول في السلطة، الرئيس نجيب ميقاتي، لجهة الإسراع في تشكيل الحكومة، وعدم الرهان على الفراغ، ومشتقاته. وفتح داره أمام النواب التغييّرين الذين وصلوا إلى ساحة النجمة على صهوة شعار “التصدّي لسياسات الحزب، وتجريده من سلاحه”. وأوفد وزيره، وزير الأشغال، علي حميّة الى الديمان، لمخابزة البطريركيّة المارونيّة، وممالحتها، في هذا الظرف المصيري.
وعلي حميّة، في الديمان، خبر يستبطن أكثر من خبر، ومن علامات إستفهام. هل أُقفل ملف المطران موسى الحاج على خير، كي نخبز بالأفراح، ونتحلّى بكعك العباس على مائدة المضيف والضيف المرحّب به بحفاوة؟ هل انتهى خطاب العمالة، وتُهم التعامل مع العدو، و”البطريرك الذي يتماهى مع المصالح الإسرائيليّة” ليصبح التلاقي ضرورة، والحوار ممرّاً إلزاميّاً، و”الأخذ، والرد”، من قيم الفلسفة اللبنانية القائمة على “التفهّم والتفاهم” بين مجموع العائلات الروحيّة، ليبقى لبنان، ويستمر، ويزدهر؟!
ثم أين مرفأ بيروت من كل ما يجري، وقد استبقنا زيارة الوزير حميّة إلى الديمان بمقال سلّطنا الضوء من خلاله على حقيقة الصراع الدائر حول إعمار المرفأ، ودوره، و”النفوذ” الذي سيتحكّم بمفاصله مستقبلاً!
ولا تقتصر قضيّة المرفأ على التحقيق، ومعرفة الحقيقة، والحق العام، والخاص، بالنسبة لبكركي، وهذه ـ من منظارها ـ من المقدسات، والأولويات، والمسلمات، ولكن أيضا من “وضعيّة” المرفأ مستقبلاً، إستناداً إلى التاريخ، والجغرافيا، والرئة السياسيّة ـ الإقتصاديّة، والهواجس الأمنية ـ الإجتماعيّة ـ الديموغرافيّة.
والجديد، أن الحوار قد بدأ، وقد وضع لبنته الأولى وزير الأشغال، من خلال زيارته البطريرك، كونه الوزير المعني، والمطلع على تفاصيل هذا الملف، وصاحب مشروع يعمل بكل ما أوتي من عزيمة على وضعه موضع التنفيذ، وكانت له سلسلة مواقف تصبّ في هذا الإتجاه.
ومع انفتاح هذه الردهات المقفلة على الهواء النظيف، والأوكسجين المنعش، يبقى السؤال: متى يصل كعك العبّاس الى دار الفتوى؟
ربما ينطوي السؤال على شيء من الخبث، أو الإستدراج، أو نكء أكثر من وتر حسّاس… لكن ليس هذا هو المقصود، لأن الإتصالات غير مقطوعة ما بين الضاحية، والدار السمحة، وهناك أكثر من طريق سالك وآمن، ومن جسر مؤهل للعبور. والمسألة هنا متصلة بحيثيّة المبادرة، وتوقيتها، والجهة المبادرة الى الإقدام على إلقاء التحيّة، والسلام.
وبكلام أكثر وضوحاً، الكلّ ـ ومن دون إستثناء ـ ينتظر إجتماع دار الفتوى، وما سيصدر عنه من بيان ختامي، وما سيتضمّنه من مواقف، ومقاربات، ليبنى على الشيء مقتضاه.
وهناك، بالتأكيد، من سيذهب الى أبعد من البيان المكتوب، ليكتشف الخلفيات. وماذا وراء السطور؟ وهل من ستارة على المسرح، ومن يقف خلفها؟ وما هي نوعيّة الوشوشات ـ إذا ما وجدت ـ وهل تتوسع مساحة الإتصالات والمشاورات، أم يتوسّع نقيضها لجهة رفع سقوف المطالب والشروط؟!
واضح أن المسلمات الوطنيّة لدى دار الفتوى، هي من المقدسات، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالطائف، والعيش المشترك، والدولة، والمؤسسات، ووحدة الأرض والشعب.
وواضح أيضاً أن التجويف الحاصل في بنية الكيان والنظام، لم يعد خطره يقلق بكركي وحدها، ولا الموارنة، والمسيحييّن بوجه عام، بل دار الفتوى أيضاً، التي تحسب جيّداً الإنتكاسات، والنكسات التي فعلت فعلها بجمهور الطائفة، وحضورها، ومكانتها، منذ تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لغاية الآن. نكسات فاقمت من خلل التوزنات غير المتوازنة بسبب فائض القوة، وما أحدثه من فراغات واسعة في النسيج الوطني ـ الاجتماعي المحبوك جيّداً بقطب مذهّبة تحترم الخصوصيات، وتراعي الحساسيّات.
وإذا كان الحوار، ممراً إلزاميّاً، لا بدّ منه، ولا غنى عنه مهما طال السفر، وتآلبت الظروف، والمستجدات، وغلظت الأصوات، ومعها التهديدات والتحديات، فإنه يجب – أو يفترض به أن يكون – شفّافاً، بدون أقنعة، وجريئاً، صريحاً، تقال فيه الأمور كما هي، من دون مواربة، ولفّ ودوران. حوار يقول فيه فائض القوّة صراحة، ماذا يريد من هذا اللبنان، من هذا النظام، من هذا الكيان، من هذه التركيبة الإجتماعيّة المتنوعة، المتناغمة، المتكاملة التي أنتجت استقراراً، وازدهاراً، في مراحل تاريخيّة معتبرة.
إن سياسة التجويف لا يمكن أن تستمر، لأنه لم يبق من جذع صلب، ولا من جذور عتيّة. لا يمكن الإستمرار في سياسة الإبتزاز. لا يمكن التغني بالسيادة، والدولة القوية القادرة، والطائف، ودستور الطائف، ونظام الطائف، فيما الممارسات تتوغّل عميقاً في التجويف. تجويف كلّ شيء بإسم الأمر الواقع، ودائماً من خلال استحداث أمر واقع مغلّف بشعارات أكبر من الكيان، وأبعد من لبنان.
فهل من حوار لتلافي العواصف، والحفاظ على ما تبقى، قبل الحديث عن نمو، واستقرار، وازدهار؟!
إن التحديات التي تواجه الهيكل العظمي، خارجيّة أكثر ممّا هي داخليّة. إنها تحديات بنيويّة تحاكي المستقبل، والمصير. يقول البطريرك بشارة الراعي، وقبل أن يتحلّى بكعك العباس، إنه إختلف مع البابا فرنسيس حول ملف النازحين. الحبر الأعظم يريد دمجهم. البطريرك يطالب بعودتهم، فما هو موقف الآخرين في لبنان؟