/ جورج علم /
يتصدّر اللقاء النيابي المرتقب في دار الفتوى، المشهد السياسي، شكلاً، ومضموناً.
في الشكل:
- إنه الأول بعد إنتخابات 15 أيار الماضي، وفرز مجلس نيابي جديد بتكتلاته، وتنوعاته.
- إنه الأول بعد إنسحاب الحريريّة السياسيّة من الحياة العامة، والفراغ الذي تركته على المستويين الشعبي، والوطني.
- إنه الأول في زمن الإستحقاقات المصيريّة.
أما في المضمون:
- توحيد الرؤى، والتطلعات للتوصل إلى مقاربة جامعة شاملة في مواجهة التحديات المصيريّة.
- الدفاع عن الطائف نصّاً، وروحاً، وممارسة.
- تأكيد الحضور الوطني الفاعل للطائفة، في كل الملفات الكبرى، والاستحقاقات المفصليّة، منعاً للاستهداف، أو التهميش.
وتبقى العبر في النتائج، ومدى القدرة على الصمود في مواجهة المحاولات الراميّة الى تشويه المسار، إن لجهة التشكيك بإمكانية حصول الإجتماع، وتأجيله قبل بلوغ الموعد المحدد لانعقاده، أو تفريغه من مضمونه عن طريق تأجيج الحساسيات بين المشاركين المنتسبين إلى كتل برلمانية متنوعة لكل منها أدبياتها، ومقارباتها السياسيّة المختلفة للاستحقاقات الداهمة.
ولا تحتاج المحاولات هذه إلى بطاقة تعريف للجهات المستفيدة من الفراغ الذي أحدثته الحريريّة السياسيّة في إنكفائها، لأن التوازنات غير المتوازنة، قد سببت خللاً في العلاقات السويّة بين سائر المكونات الإجتماعيّة ـ الطوائفيّة الأخرى، وإمتد الخلل ـ أو تمدّد ـ ليهزّ المرتكزات الأساسيّة التي قام عليها الكيان، والنظام، والميثاق، بهدف التغيير، لأن “الهوى شروقي”!
يزعج إجتماع دار الفتوى، من يراهن على تهميش الحيثيّة الوطنيّة السنيّة، أو انكفاء دورها، والحضور، والتأثير، في هذه المرحلة المصيريّة التي يجتازها لبنان.
ويزعج من في حساباته أن المعركة تدور حاليّاً بين “قوييّن”: الثنائي الشيعي من جهة، و”الممانعة المسيحيّة” من جهة أخرى، دون كبير إعتبار لسائر القوى الممانعة الأخرى.
ويزعج من يبني رهاناته على أن اختلال التوازن قد تحوّل إلى قاعدة مسلّماً بها، وأن الأمر الواقع بدأ يكتسب صفة الاستمرارية إلى ما لا نهاية. وإن “التآكل” الشره الذي يتمدد وسط البيئات الأخرى، لإضعافها، والهيمنة على مقدّراتها، أسلوب قد يكتسب صفة الديمومة، بعدما أعطى نتائج مشجّعة لغاية الآن، وهذا ما يدفع، ربما، إلى رفع الصوت بوجه الآخرين، ومضاعفة منسوب التحدّي في الخطاب السياسي، واعتماد الفوقيّة، أسلوبا في المخاطبة، وكأنه فريد مكانه، وسلطان زمانه.
ولا يحتاج اليقين الى إجتهاد، وقد دلّت معظم الوقائع، والممارسات، منذ العام 2005 ولغاية الآن، على أن “ما لنا هو لنا وحدنا، وما لكم هو لنا ولكم”. وهذا المعيار هو من أبرز العوامل المدمّرة لتوازنات الطائف، ومؤسساته الدستوريّة عن طريق الممارسات الإستنسابيّة. صحيح أن أحداً لم يعتل منبراً خطابيّاً، ويطالب علناً بتغيير الطائف، أو الإنقلاب عليه، لأنه ليس بحاجة إلى ذلك، طالما أن المماراسات في إدارة الشأن العام، تقود طوعاً إلى هذه النتيجة، وطالما أن التوازن غير متوازن، وطالما أن الفساد أغوى الغالبيّة، وحولها إلى كتلة بكماء، صماء، عمياء.
ولأن “جائحة الفساد”، لا تزال الأكثر نموّاً، وانتشاراً من جائحة “كورونا” في مجتمعنا، فإن المناعة الوطنية لا تزال ضعيفة، منهكة، ومشكوك بقدراتها على التصدّي للتحديات الماثلة، وكأن الانتخابات لم تغيّر سوى القليل القليل، ولأن المتحكّمين بمفاصل الأمور، معظمهم في قفص الإتهام المحلي، والعربي، والإقليم، والدولي، على أنهم مرتكبون، وفاسدون، ومسؤولون عن جهنّم، والارتطام الكبير. وهذا “الانفصام” المتمادي في تكوين معالم دولة، ومعالم سلطة، وهيبة مؤسسات، دفع برجال الدين إلى تخطّي رجال السياسة، لا بل انتقادهم، وتقريعهم على انعدام المسؤوليّة، وسوء التدبير، والتقرير.
والأمر لا يقتصر على البطريرك الكاردينال بشارة الراعي الذي تحول إلى خطيب مفوّه في الدفاع عن لبنان الإستقلال، والسيادة، والحريّة، والحياد الإيجابي، بل يتجاوزه إلى مفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان الذي دعا نواب الأمة ممثلي الطائفة، إلى اجتماع تشاوري، مفصلي من حيث توقيته، وخلفياته.
إن استنهاض الهمّة الوطنيّة لدى ممثلي الطائفة الأكبر في لبنان، وتوثيب روح الميثاقيّة، وتحفيز الإرادة التعايشيّة التي كرّسها الطائف، لا ينظر إليه من المنظار الإستثنائي الفريد من نوعه، بعدما تحول السيّد حسن نصر الله، ومن موقع مكانته الدينيّة، إلى قائد سياسي وعسكري للحزب الذي يتولّى مهام أمانته العامة. وهكذا يصبح رجل الدين الذي يتزعم هذه الطائفة، أو تلك، في قمرة القيادة، بديلاً عن القيادات السياسيّة العاجزة، أو المتورطة، أو المشكوك بشفافيتها، ونصاعة وطنيتها. لعل البديل يكون أكثر قدرة فعالية من الأصيل، في قيادة ما تبقى من سفينة إلى برّ الأمان.
ورجل الدين، هنا، الذي يبادر، يعرف تماماً أحوال الرعيّة، سواء في مرحلة الحريريّة السياسيّة في عزّ عطاءاتها وزخم انطلاقتها، أو في مرحلة ما بعد الإنسحاب. ولأنه يعرف، فهو يبادر، ومبادرته ليست من نسيج نفسه بقدر ما هي من نسيج الواقع العربي، والمخزون السعودي الخاص بلبنان، وبالطائفة السنيّة من باب أولى.
إن مبادرة المفتي دريان محصّنة، ولكن ليس المهم أن يبادر إلى تحفيز الهمم، ورفع الشراع، لأن الأهم أن تهب الرياح كما تشتهي الأشرعة، لكي تبحر السفينة وفق إحداثيات البوصلة، واتجاهها.
ويبدو أن بعض المؤشرات واعدة، وسط حديث عن محادثات سعوديّة ـ فرنسيّة متواصلة تجاه لبنان، واتصالات “ماكرونيّة” مستمرة مع الرؤساء: الأميركي، والروسي، والإيراني، وكل صاحب شأن، لتحريك الجمود، ودفع الاستحقاقات نحو الإبحار…