بين سعر الصرف الوهمي والدولرة الحقيقية: الليرة من التثبيت De Facto إلى التعويم De Jure

كتبت سهام رزق الله في صحيفة “الجمهورية:

ملفتة الحملة الإعلامية التي سعت أخيراً إلى تسليط الضوء على أنّ نظام سعر الصرف الرسمي في لبنان لم يكن يوماً «ينص على تثبيت سعر الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي»، وأنّه يمكن بأي لحظة اعتماد سعر السوق رسمياً كما كانت الحال قبل التسعينات، دون الحاجة لإعلان الانتقال إلى نظام التعويم. لا شك أنّ هكذا حملة لا تصبّ سوى في إطار التمهيد لتحرير سعر الصرف، الذي على الرغم من بقائه عائماً في النصوص إلّا أنّه شهد فترة تثبيت واضحة في التطبيق منذ العام 1997، كونه الأنسب علمياً في ظلّ الدولرة، التي تلت أزمة الثمانينات، مما كلّف المصرف المركزي استنزافاً كبيراً لاحتياطاته بالعملات الأجنبية، حتى جاء قرار «دعم المنتجات» ليقضي على ما تبقّى منها منذ مطلع الانهيار عام 2019.. علمياً من المعروف أنّ ثمة فرقاً بين نظام سعر الصرف المنصوص رسمياً ونظام سعر الصرف الفعلي المطبّق، والذي يعتمده صندوق النقد الدولي في كل دراساته عن بلدان العالم.. ما الفرق بين De Facto و De Jure؟ وكيف ترافق سعر الصرف الوهمي مع الدولرة الفعلية؟

من المعروف في علم السياسة النقدية، خصوصاً في البلدان النامية وبشكل أخص في البلدان المدولرة، أن ثمّة فرقاً بين ما يتمّ إعلانه في النصوص أي De Jure، وما يتمّ تطبيقه فعلياً في الواقع أي De Facto.

ولذلك تحديداً، نرى في جميع تقارير صندوق النقد الدولي التمييز بين الحالتين والتركيز على ما يتمّ تطبيقه من أنظمة سعر صرف وسياسات نقدية تقليدية وغير تقليدية من قِبل المصارف المركزية، وليس ما يكون مكتوباً أو غير مكتوب في نصوص قوانين النقد والتسليف أو ما يشابهها فيها…

في ما يخصّ لبنان، لا بدّ من الإشارة الى أنّه قبل الحرب اللبنانية (1975-1990) كان المصرف المركزي يعتمد تطبيقياً نظام سعر الصرف المعلن رسمياً، أي النظام العائم، والذي كان مناسباً طبعاً لطبيعة نظام الإقتصاد الحر وقوة الاقتصاد اللبناني الذي لم يكن يعرف أي عجز مالي في الموازنة ولا أي حاجة للاستدانة لا بالعملة الوطنية ولا بالعملات الأجنبية، ولا يشهد أي أزمة ميزان مدفوعات، لا بل يسجّل فيها فوائض متتالية، تعزز قوة الليرة اللبنانية التي لم يكن يستخدم سواها، لا بل كانت من أقوى العملات ويحسب لها حساباً دولياً!

أما بعد الأزمة النقدية في الثمانينات وتجربة التضخّم المفرط الذي تخطّى عام 1987 حدود 487% وانهيار الليرة اللبنانية والصعود الصاروخي لقيمة الدولار الأميركي إزاء الليرة اللبنانية، إختار القطاع الخاص اللبناني عفوياً، الهروب من العملة الوطنية واستبدالها بالدولار الأميركي بشكل تلقائي، دون انتظار أي قرار رسمي لذلك.. حتى لامس معدّل الدولرة الجزئية غير الرسمية في لبنان حدود 90%، وفرض الدولار نفسه في التسعير وفي التداول التجاري الكبير الحجم وفي الإدخار المصرفي للمودعين.

رسمياً بقيت الليرة اللبنانية العملة الوحيدة لدولرة لبنان. أما تطبيقياً فالحقيقة أنّ الدولرة انتشرت منذ ذلك الحين ولم تتراجع سوى بشكل طفيف، حتى بعد التراجع التدريجي لسعر الصرف وتثبيته عملياً عام 1997 ولأكثر من 22 عاماً، إذا احتسبنا حتى الانهيار الكبير الذي وقع في تشرين الأول 2019.

النظام الرسمي لسعر الصرف بقي عائماً طيلة فترة الحرب اللبنانية، أي حتى عام 1990، مما جعل كل تقلّبات سعر الصرف تُسجّل رسمياً لدى المصرف المركزي، ويتمّ على أساسها بيع وشراء الدولار مقابل الليرة، دون الحاجة لتعدّد أسعار سعر الصرف كما هي الحال في الأزمة الحالية…

لكن بدءاً من عام 1990، أي بعد توقّف الحرب في لبنان، وعودة انتظام عمل المؤسسات والعمل بالمحاسبة العامة وضرورة إعادة إقرار الموازنات العامة والتعامل مع سوق مدولر بشكل شبه كلّي، لم يعد بالإمكان الاستمرار عملياً مع تقلّبات هائلة بسعر صرف الدولار الأميركي المستخدم بموازاة الليرة اللبنانية لا بل أكثر بكثير منها في السوق اللبناني وكل حساباته…

من هنا، كان خيار نظام الربط الزاحف لسعر الصرف الذي تمّ تطبيقه بين عام 1992 و 1997 بغية تحقيق تخفيض تدريجي لسعر الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي، الى أن تمّ تطبيق نظام الربط الثابت لليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي على أساس هامش 1501-1514 وسعر وسطي 1507.5 ابتداءً من أواخر عام 1997 كما أشار اليه صندوق النقد الدولي في جميع منشوراته، وذلك بغض النظر عمّا هو مكتوب في النصوص الرسمية بشأن طبيعة نظام الصرف في لبنان.

اعتماد ربط سعر الصرف كان حاجة ضرورية بسبب الدولرة المرتفعة، والتي كانت بدورها تعكس حقيقة قلة الثقة بالعملة الوطنية، بغض النظر عن كون الليرة اللبنانية هي العملة الوطنية المعترف بها رسمياً.. إلّا أنّ الدولرة تطوّرت أيضاً لتكتسب تدريجياً صفة شبه رسمية، مع إنشاء غرفة مقاصة لدى المصرف المركزي للشيكات المصرفية بالدولار الأميركي.. ومن ثم مع بداية اعتماد الصرّافات الآلية التي باتت تتمّ تعبئتها بالدولار الأميركي الورقي الى جانب الليرة اللبنانية! لا بل السماح بالتحويل التلقائي بين الودائع بالليرة والدولار، والسحب الورقي بإحدى العملتين، أياً تكن عملة الوديعة التي يتمّ السحب منها! فكيف بالحري اليوم، بعد أن سمحت منصة “صيرفة” حتى لموظفي القطاع العام، إمكانية سحب رواتبهم بالدولار الأميركي عبر تحويلها مباشرة عبر الصرّافات الآلية، فيما هي بالأساس بالليرة اللبنانية، وهي كانت الشاهد الأخير على أنّ الدولرة غير رسمية حتى لو انتشر تطبيقها على أوسع نطاق في الأسواق…

ومع تثبيت سعر الصرف منذ 1997، انتظر الجميع أن تتراجع الدولرة في تلك الفترة، بعد تثبيت سعر الصرف بحدود 1507.5 طيلة 22 عاماً، إلّا أنّ الدولرة الجزئية غير الرسمية بقيت مرتفعة بحدود 70%، ومع انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية في الربع الأخير من العام 2019 ارتفعت أكثر لتلامس 80% من الودائع اليوم، بعد أن خرج ربط سعر الصرف عن السيطرة.

أكثر من ذلك، منذ عام 1993 بدأت تتنامى الفجوة المتزايدة بين الودائع بالعملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي بالعملات الأجنبية. إلّا أنّ اشتداد عمقها برز مع بدء تسجيل عجوزات متراكمة في ميزان المدفوعات منذ عام 2011، حيث بدأت تتراجع الموجودات بالعملات الأجنبية، فيما استمرت دولرة الودائع بالتزايد. ولم تشفع فيها سياسة تثبيت سعر الصرف منذ العام 1997 التي كان يفترض أن تطمئن الناس إلى استقرار سعر العملة الوطنية،.. لا بل ترافق معدل دولرة الودائع المرتفع مع ارتفاع دولرة التسليفات المصرفية، وأكثر من ذلك دولرة جزء كبير من الدين العام (اليوروبوند) وتزايد إصدار شهادات إيداع بالعملات الأجنبية من المصرف المركزي والمشاركة في “الهندسات المالية” لاجتذاب الدولار وتحقيق فوائض في ميزان المدفوعات كوسيلة لشراء الوقت “اصطناعياً”، على أمل تحقيق إصلاحات مالية واقتصادية جذرية، ما جعل “ثبات سعر الصرف” وهمياً والدولرة حقيقة ثابتة…

وبما أنّ “العملة النقدية” ليست مخصّصة فقط لدفع الواردات، فإنّ مبلغ الودائع بالعملات الأجنبية لم يعد مساوياً بشكل صارم مع الموجودات بالعملات الأجنبية للنظام المصرفي. لأنّ عاملين آخرين يتدخّلان لتوسيع الفجوة بين الودائع والموجودات بالعملة الأجنبية. الأول هو تحويل العملات من الليرة اللبنانية الى الدولار الأميركي، والثاني هو أنّ استخدام العملة كأداة، زاد من منح المصارف قروض للقطاع الخاص بالدولار للسوق الداخلية. لذلك، إذا تمّ استخدام هذه الإئتمانات في المعاملات المحلية، تصبح بدورها أيضاً مصدر خلق المزيد من النقد. هذا ما يُعرَف بمؤشر “مضاعف الائتمان” الشهير multiplicateur de credit.

ومع ذلك، طالما كان ميزان المدفوعات في مسار فائض تصاعدي، ظلّت هذه الفجوة محدودة. وهكذا انخفضت نسبة الودائع إلى الموجودات الخارجية من 1.7 في نهاية عام 1997 إلى 2.0 في نهاية عام 2011. في ذلك العام، مع بداية تداعيات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني، وظهور عجز في ميزان المدفوعات، وزيادة غير طبيعية في الودائع بالعملات الأجنبية، ارتفعت هذه النسبة بشكل كبير لتصل إلى 3.5 في نهاية عام 2016، وأخيراً 7.3 في نهاية عام 2019. من هنا، لم تعد الموجودات الخارجية للجهاز المصرفي كافية لتلبية طلبات سحب الودائع بالدولار، خصوصاً أنّ مصرف لبنان غير قادر على طباعة دولارات لإمداد المصارف.

الخلاصة، بعد مرور حوالى 3 سنوات على سقوط نظام ربط سعر الصرف، من المستحيل أن يتلاءم تعويم سعر الصرف مع الدولرة المرتفعة التي تخطّت اليوم 80% في لبنان. فمن جهة لا أحد يطلب الليرة في السوق، بل الجميع يطلب فقط الدولار، ويحتسب قيمة السلع والخدمات وفق حركته. وبالتالي لا طلب على الليرة يحدّ من سقف تدهورها.. ومن جهة أخرى مستوى التسعير والمضاربة في الأسواق لم يعد يسمح بتحمّل تقلّبات كلفة السلع والخدمات وتغيّر موازنات المؤسسات لحظة بلحظة…فهل يتمّ تأكيد تعويم سعر صرف الليرة نصاً وتطبيقاً أياً يكن مسار الدولار وتداعياته على الاقتصاد؟ أم نعود للتمييز بين النص والواقع، فيتمّ الاتجاه من جديد نحو ما كان يُعرف بنظام ربط سعر الصرف تطبيقاً على مستوى أقل وهمية مما كان عليه؟ أم يعترَف بحقيقة الدولرة رسمياً للحدّ من ازدواجية التعامل بعملتين؟