〉 آمال خليل 〈
حافظت طرابلس وجاراتها على الهدوء، بعد غرق العشرات من أبنائها في مركب للهجرة غير الشرعية قبالة شواطئ طرطوس في سوريا. وهذا بخلاف حالة الغضب التي سيطرت عقب غرق مركب مماثل قبالة بحر طرابلس قبل ستة أشهر. بدا وكأنّ الطرابلسيين سلّموا بالقضاء والقدر بانتظار الغرق الجديد.
قبالة مدافن الرمل، جلس عدد من الشبان أمام المقهى يتداولون في آخر الأخبار من طرطوس. بدهشة وصدمة قليلتين، يزيدون الأسماء على لائحة الغرقى من جيرانهم وأقربائهم الذين سيرسون هنا في المدافن، بدلاً من أوروبا. يبالغ الشبان في برودتهم تجاه الفاجعة الجديدة التي ضربت الشمال.
“هذا حظهم ونصيبهم” يقول أحدهم، مبرّراً بأن مركب طرطوس “غرق قضاءً وقدراً ولم يتم إغراقه كما حصل في طرابلس”.
3 محاولات للهجرة
يقرّ الرجل بأن في تبريره، موافقة على استكمال مسلسل الهجرة عبر البحر بشكل غير شرعي. يقاطعه شاب آخر، ليؤكد بأنه هو أيضاً سيفعلها إذا استطاع إليها سبيلاً. “هنا نصرف أوكسيجين عالفاضي” يقول ابن خالة عزمي ببو، الذي لا يزال مفقوداً مع نجله أحمد، فيما نجله الآخر أمجد يقبع في العناية المشدّدة في مستشفى الباسل في طرطوس. باع عزمي الذي كان يعمل حارساً أمنياً في شركة خاصة، بيته وسيارته و”صيغة” زوجته، ليدفع كلفة التهريب.
سبر الثلاثة البحر للمرة الأولى قبل شهر، لكنّ استخبارات الجيش أوقفتهم مع العشرات، في منزل في المنية أثناء تحضّرهم للصعود إلى المركب. مكثوا لوقت قصير في التوقيف لدى استخبارات الجيش قبل أن يُطلق سراحهم. أعادوا الكَرّة منذ أكثر من أسبوع، لكنّ السلطات التركية أوقفتهم ورحّلتهم. حتى كانت الثالثة ثابتة ليل الأربعاء الماضي.
حاول أحد أصدقاء أحمد (17 عاماً) ثنيه عن رمي نفسه في البحر بعد فشل التجربتين. “لم يجدها نذير شؤم، بل قال له: نحنا هنا نموت على البطيء. في البحر إمّا نموت بسرعة، أو نصل إلى أوروبا هرباً من الجحيم”.
لا لتحريم الهجرة
في باب الرمل غصّ منزل آل مستو بالمعزّين بمصطفى مستو وبناته ديار ورويدة ودينا، فيما زوجته حميدة تقبع في العناية المشدّدة مع والدها. زحمة إعلاميين بكاميراتهم، يصعدون إلى المنزل على الدرج المتهالك.
تتوكّأ العجوز على عصا وعلى أضواء الهواتف لتصل إلى منزلها في الطبقة الرابعة. تحمل بيدها ربطة خبز شبه فارغة وتتمتم، كلما سمعت أصوات النحيب: “يا لطيف”.
اعتاد منزل آل مستو الصغير على الازدحام. منذ ما قبل الأزمة الاقتصادية بسنوات طويلة، يسكن الوالد والوالدة ومصطفى وأسرته وشقيقه وأسرته في البيت. لا قدرة لدى الشقيقين على استئجار منزل مستقل. وفي الآونة الأخيرة، اضطر مصطفى لبيع سيارة الأجرة التي يعتاش منها، ثم استأجر سيارة ليعمل عليها سائقَ تاكسي.
على وقع صوت الشيخ الذي يصدح بخطبة الجمعة من مسجد مجاور، تحلّق شبان وشابات على الشرفة. لا يعجبهم تحريم الشيخ للسفر عبر البحر لأنه “رمي النفس في التهلكة”.
تؤكد مايا (29 عاماً) بأنها قد تحذو حذو مصطفى. بانتظار وصول جثامين مصطفى والبنات الثلاث وأكبرهن في العاشرة من عمرها، استذكرت أن اليوم (أمس) عيد ميلادها. “لا أريد أن أتذكر. أعيش حالة اكتئاب أنا وعدد كبير من أصدقائي وزملائي. أعمل من الفجر إلى النجر ولا يكفيني راتبي سوى أجرة التنقل. أخضع نفسي لأيام كثيرة إلى الريجيم مع زميلاتي كي لا نضطر لشراء وجبات طعام خلال الدوام”.
روان (24 عاماً) ترى أن هناك مخططاً لرمي طرابلس كلها في البحر. “معظم الطرابلسيين من أصحاب الشهادات. لكن ما الفائدة؟ الأسبوع المقبل لديّ امتحان في الجامعة اللبنانية في بيروت، لكنّ الأساتذة في إضراب”.
أمّا علي (30 عاماً) فيشير إلى “غالونات” وبراميل المياه المتكوّمة في الزوايا. “أعمل في قسم المبيعات في شركة خلال النهار وأملأ المياه في الغالونات في الليل لأحملها إلى منزل عائلتي. هكذا أعادونا إلى العصر القديم. لا ماء ولا كهرباء. في شارع المئتين الذي أقصده، لا مبنى مضيئاً سوى منزل وزير الداخلية!”.
في ورشة التنجيد المقابلة، لا يتمالك أبو أحمد وأبو عرب دموعهما على قريبهما مصطفى. صهره أبو أحمد عاتب عليه. “صار مجرّب مئة مرة. في إحداها، دخل مع أسرته إلى أوكرانيا بتأشيرة قانونية. إلا أن السلطات رحّلتهم. ثم جرّب دخول أوروبا عبر تركيا ولم ينجح”. لم يستمع لنصائح العائلة بالتوقف. “غادر الحي منذ عشرين يوماً، بسرية ومن دون وداع. ادّعى بأنه يقيم لدى أصدقاء له في عكار وسيعود قريباً. هكذا يشترط المهرّبون” قال أبو أحمد.
فقدان الأثر
لكنّ عائلة السيد علي صاحبة الفجيعة الكبرى، تتمنى لو زاملت عائلتي مستو وببو في معرفة مصير أبنائهما. فقد اصطحب أحمد نجله نور وابنته الأولى، وابنته الثانية مع أولادها الثلاثة. كان هدفهم اللحاق بماري، زوجة أحمد، التي سبقتهم قبل شهرين إلى ألمانيا للعلاج من مرض السرطان. لم تسلك طريق البحر لأن جسدها لا يتحمل. غادرت إلى تركيا بالطائرة ومنها عبرت بطريقة غير شرعية إلى ألمانيا حيث يقيم شقيقها.
يبرّر طه، شقيق أحمد، رغبة العائلة بالهجرة بالقول إن ماري “تبهدلت كثيراً بسبب حاجتها إلى العلاج الكيماوي”. وبعدما نجحت في الوصول إلى ألمانيا، حاول أحمد مرات عدة اللحاق بها. في إحداها، أوقفته استخبارات الجيش، وفي غيرها وصل مع أسرته إلى قبرص وتم ترحيله. وفي المرة الأخيرة، غرقت الابنتان والأحفاد الثلاثة وفُقد أثر نور. أما أحمد فقد ظهر في مقطع مصوّر يساعد في نقل الجثث وإنقاذ الناجين. “لكن بعدما ذهب نجله الأكبر إلى طرطوس للقائه، لم يجد له أثراً. وسيعود ليلاً بمفرده مع جثمان أختيه والأطفال” يقول طه.
في منزل الأهل الصغير في القبة، توسّط سرير غرفة استقبال المعزين، ولفّ بغطاء أزرق. إنه النعش المؤقت لمن يصل أولاً من جثامين الأبناء. لا يتّسع للضحايا الست. لكن العائلة تدرك أنهم سيصلون على دفعات وأن التشييع مفتوح.
أم أحمد لا تستوعب ما جرى. تقبلت نبأ مقتل ابنها وأبنائه. لكن احتمال أن يكون ابنها حياً، إنما مفقود الأثر، وضعها في الدوامة التي يعانيها أهالي الضحايا المفقودين في مركب طرابلس منذ ستة أشهر.