/محمد حمية/
لم يكن إقرار المجلس النيابي التعديلات على قانون السرية المصرفية بعيداً عن سياق الضغوط والمصالح الخارجية، والأميركية تحديداً، في لبنان.
في جلسته الأخيرة، أقر مجلس النواب التعديلات من دون أي إشكالية أو معارضة أي من الكتل النيابية، فمر بسلاسة وهدوء.
اعتمد لبنان السرية المصرفية بموجب القانون الصادر في العام 1956، حيث أن المادة 579 من قانون العقوبات التي تعاقب على افشاء الأسرار من قبل الأفراد الذين يعلمون بها بحكم وضعهم أو وظيفتهم، أو مهنتهم أو فنهم، من دون أن يكون هناك سبب شرعي أو استعمال لمنفعة خاصة أو لمنفعة أخرى. وقد أُطلِق على لبنان تسمية سويسرا الشرق، كونه ملجأ للأموال الخارجية الهاربة.
ومُنذ ذلك الحين، كانت ترفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، بناء على طلب المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا.
تساؤلات عدة طرحت عن السبب بإدراج هذا القانون على جدول أعمال أول جلسة تشريعية للمجلس الجديد، وكذلك سرعة إقراره، على الرغم من وجود عشرات اقتراحات ومشاريع القوانين والمراسيم التطبيقية المجمدة في أدراج مجلس النواب وأروقة السراي الحكومي ودوائر قصر بعبدا. هل لأنه مطلب صندوق النقد الدولي، أم مطلب أميركي يتعلق بمنظومة العقوبات الأميركية على خصومها في لبنان والخارج تحت شعار مكافحة الارهاب وتبييض الأموال؟ وما يُثير الاستغراب أكثر، هو حضور السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا الجلسة التشريعية، والاهتمام الذي أظهرته حيال قانون السرية المصرفية، وكأنها تشارك في مناقشة وإقرار أحد القوانين في بلادها!
يكشف مطلعون على الملف لموقع “الجريدة”، عن ضغوط أميركية ـ ومن إدارة صندوق النقد، على الحكومة والمجلس النيابي، للانتهاء من القوانين الإصلاحية التي تطلبها إدارة الصندوق، وهي، إلى جانب تعديلات السرية المصرفية، قانون الموازنة وإعادة هيكلة المصارف والكابيتال كونترول، وذلك قبل انطلاق جلسات المجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقبل شهر أيلول موعد اجتماع إدارة صندوق النقد لإصدار تقرير يتضمن تقييم الإصلاحات في لبنان.
لكن في ظل الخلاف السياسي على “الكابيتال كونترول” وعلى هيكلة المصارف وكذلك الموازنة، كان قانون “السرية المصرفية” أسهل الممكن، كهدية لإرضاء الصندوق نوعاً ما. لكن المطلعين يتخوفون من استخدام الأميركيين هذا القانون لخدمة قوانين العقوبات الأميركية على خصوم وأعداء الأميركيين في لبنان، كالمقربين من “حزب الله”، أو بعض مفاتيح الطبقة السياسية اللبنانية، لمزيد من حصار لبنان واستهداف “حزب الله” وترويض بعض الشخصيات السياسية، مذكرين بالعقوبات الأميركية المفروضة على النائبين جبران باسيل وعل حسن خليل بتهم الفساد والاثراء غير المشروع وتمويل الإرهاب، علماً أن الكثير من النافذين، من سياسيين ومستشارين وكبار الموظفين في لبنان، استغلوا قانون السرية المصرفية لتبييض الأموال وجمع الثروات في عمليات فساد وإثراء غير مشروع، وكذلك استغلوا السرية المصرفية وعدم وجود قانون “كابيتال كونترول”، لتهريب مليارات الدولارات إلى الخارج قبل وبعد أحداث تشرين 2019. فلم تستطع الجهات القضائية والمالية المختصة تحديد الأشخاص الذين هربوا الأموال وقيمة هذه الأموال المهربة، بشكلٍ رسمي ودقيق.
لكن إقرار التعديلات على القانون لا يعني إلغاء أو رفع السرية المصرفية، فالذي حصل هو توسيع دائرة الحالات والهامش الممنوح للجهات المختصة لرفع السرية المصرفية.
رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان يقول إن إقرار السرية المصرفية سيكون فاعلاً في حالة الفساد، خصوصاً في القطاع العام، وذهب أبعد الى كل مواطن لبناني، وبموضوع تبييض الأموال والإرهاب، والضرائب والتهرب الضريبي، والإثراء غير المشروع.
لكن هل تشمل التعديلات، الأموال المنهوبة والمهربة والمحولة الى الخارج قبل وبعد الانهيار المالي والاقتصادي والنقدي في تشرين 2019؟ وهل فعلاً ستلبي هذه التعديلات متطلبات صندوق النقد الدولي؟ وهل سيلتزم مصرف لبنان وجمعية المصارف بتطبيقها.. أم ستبقى حبراً على ورق على غرار الكثير من القوانين الأخرى؟ العبرة في تطبيقه من دون استنسابية.
قد تقضي هذه التعديلات على ما تبقى من ثقة وحماسة لدى أصحاب رؤوس الأموال الخارجية والمغتربين اللبنانيين، للاستثمار في لبنان، وحفظ سرية أموالهم، بعد “النكبة المصرفية” التي حصلت في عام 2019، لكنها ستساهم في تعزيز عملية مكافحة الفساد وتهريب وتبييض الأموال والتهرب الضريبي، شرط تطبيقه بشكل صحيح، وفق ما يقول المتحمسون.
لكن ما جدوى هذه التعديلات على قانون السرية المصرفية، بعدما تمت سرقة الودائع المصرفية وتهريب عشرات مليارات الدولارات الى الخارج، وبالتالي افراغ خزائن المصارف من الأموال الشرعية وغير الشرعية، وإيداعها في مصارف مراسلة أو مصارف أجنبية أو شراء أسهم وعقارات أو وضعها في خزائن حديدية في منازل نافذين؟ على من سيُطبق هذا القانون وتعديلاته؟ وما جدوى هذه التعديلات التي تباهى بإقرارها مجلس النواب، وكذلك “الكابيتال كونترول” الذي سيطرح قريبا، إذا لم يقترنا بإقرار وتنفيذ قانون استرداد الأموال المحولة الى الخارج، والتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والمجالس والمؤسسات الأخرى، وكذلك إصلاح القطاع المصرفي؟