رَغيفهم مَغموس بِالقُمامة.. مَن هم؟

/ محمّد حسين عيسى /

خرجتُ كعادتي لأتسكّع في شوارع بيروت، أصادفُهم منذ فترة ليست بقليلة وأُلاحظُ تكاثرَهم في كلّ مرّة، أشاهدُ وجوهًا جديدة منهم باستمرار من جميع الفئات العمريّة، ذكورًا وإناثًا، لبنانيّين وسوريّين.
أثار انتباهي تجمّعهم بكثرة غير معتادة في سوق مار الياس التّجاريّ في العاصمة، أطفال يتراشقون حبّات البندورة المتعفّنة ويلعبون لعبة الحبل. اقتربت محاولاً التقاط صورة لهم بهاتفي المحمول، محاولة باءت بالفشل فقد ذُعِروا وصاحوا معًا جميعًا “ممنوع…ممنوع”!
لم أكن أعلم أنَّ الصُّورة محظورة في عالم “النبّاشين”!
حينها أغلقْت هاتفي معتذراً عن محاولة كسري لِقانون “المعلّم أبو علاء” كما يسمّونَه. اقتربت منهم وسألتهم لماذا يُمنع التّصوير؟
وكان الجواب موحّداً: “هكذا أوصانا المعلّم أبو علاء ممنوع الصّور وممنوع نحكي مع التّلفزيون”.
إجابة أثارت دهشتي وتساؤلي حول هذه القوانين العجيبة، لذا اقتربت أكثر فأكثر، محاولاً دخول عالمهم، حيث تموضعت على حافّة الرّصيف بجانب الحاوية المليئة بالنّفايات المعرّف عنها في هذا العالم “المجوهرات الثّمينة”.
أردفتُ قائلًا محاولًا طمأنتهم: “اطمئنوا، لن ألتقط الصور أبداً، وهاتفي ها هو داخل جيبي، إذن، أتسمحون لي أن أجلس معكم؟”، عندها أجاب أحدهم وهو الإبن الأوسط في عائلة “أبو خالد” ويدعى يامن “تفضّل.. أهلًا وسهلًا”.
بعد وصولي إلى الهدف المنشود، سألني أحدهم: “يا أستاذ نحن هنا مرغمين على العمل والعيش مع النّفايات من أجل قوت يومِنا. أنت ما الّذي أتى بك إلى هذا المكان؟”
أجبته سريعًا: “أريد أن أتعرف عليكم وأعرف أكثر عن طبيعة عملكم”.

المهنة متوارثة من الجدِّ حتّى الأحفاد!

سريعًا حضر أبو خالد على آليّة التّوكتّوك، الّتي يستعملُها للعمل ونقل البضائع وإلى جانبِه تجلس زوجته مع طفلتِهما الرّضيعة، وبدأت أتعرّف عليهم واحدًا تلو الآخر.
سألت أبو خالد “منذ متّى تعمل في تلك المهنة؟”
– منذ أن كنت طفلًا بعمر ابني أحمد مشيراً الى أحدِ أبنائه، وعمره لا يتجاوز التّسع سنوات. تعرّفت على أصول وطرق هذه المهنة من والدي رحمه الله، فهو قد كان “نبّاشاً” قديماً وسيّد الكار. لكن الآن الكار أصبح منتشرًا بكثافة، وممنوع علينا أن نعمل لحسابنا الخاصّ.

“مافيا” النّبّاشين!

يسترسل أبو خالد بالحديث ليقول: عندما بدأت الأزمة السّوريّة، نزحنا من عشوائيّات الشّام إلى البقاع ثمّ إلى بيروت حيث سكنّا في منطقة الكولا، وبدأت أمارس مهنتي بـ”النّبش” برفقة إخوتي، حتّى كبروا أولادي السّتّة فبدءوا يرافقونني ليتعلّموا “فنّ النّبش”.
قاطعته متسائلًا ماذا قصدت بممنوع العمل لحسابكم؟
هزّ رأسه، وبانت علامات القهر واليأس على وجهه الأسمر، وأجاب: قبل أن تزداد الأزمة في لبنان كانت هذه المهنة محصورة ببضعة أشخاصٍ لبنانيّين وسوريّين، عملهم حرّ وأرباحهم من ذهب، ولكن الآن هناك “مافيا” وعملنا تحت أمرها وسلطتها.
– مافيا؟
– “بلّ مافيات يا إبني”، كلّ شارع في بيروت يسيطر عليه معلّم ما، فأنا وعائلتي مثلًا نعمل لصالح المعلّم “أبو علاء”، صاحب بورةٍ كبيرة في منطقة صبرا.
وعن أرباح أبو علاء يقول: “يربح ربحًا وفيرًا على فرق ارتفاع سعر صرف الدّولار، ويعتبر النّحاس الأحمر والنّحاس الأصفر الأعلى سعراً، أما الأقل سعراً فهو الخبز اليابس”.

لاحت علامات الدّهشة والاستغراب على وجهي، فسألته: ماذا يفعل أبو علاء وزملاؤه بالخبز اليابس؟
وهو السّؤال الوحيد الّذي لم أحصل على إجابة له!
وعند سؤالي لهم: “ماذا عن المدرسة؟”
أجابني يامن بحسرة: “لا نعرف ما هي أو كيف هي، لكنّنا نشاهد التّلاميذ عائدين من مدارسهم وهم يمرّون من جانبنا”.
– هل ترغب بالدّخول إلى المدرسة؟
– نعم، لأنّ ملابسهم دائمًا تبقى نظيفة.
نظرت لأحمد وسألته: “ماذا تريد عندما تكبر؟”
– أتمنى عندما أكبر أن امتلك ألعابًا جديدة!

ماذا عنك يا ريم؟
ريم عمرها لا يتجاوز السّتّ سنوات، تلعب لعبة الحبل مع أخيها احمد، شقيّة لكنّها خجولة، وجميع محاولات الحوار معها باءت بالفشل.
سألت أُمّ خالد كيف تجلس إلى جانب الرّصيف على التّوكتّوك وهي تحمل بيدها طفلة رضيعة؟
– لدينا مناعة، الحمدلله، و”برضّع طبيعي”، حليب الأمّ يقدّم مناعة كافية لابنتي شذى.
ثمّ أردفت: “مرقت هذي كورونا على جميع النّاس باستثنائنا نحن محصّنون بمناعة النّفايات”.
وعند سؤالي عن تنشقهم للرّوائح الكريهة، وصلني الجواب بسرعة غير متوقعة، وبصوت جماعيّ موحد “تعوّدنا تعوّدنا”.
إجابات عجيبة لم أكن أحسب سماعها أبدًا بلسان أطفال بريئة، أطفال زارهم البؤس بعدما سُرقت منهم براءة الطّفولة وأحلام العمر الجميلة…
وسريعًا مرّت على ذاكرتي مقولة الكاتب الرّاحل ممدوح عدوان “نحن لا نتعوّد يا أبي إلاّ إذا مات شيء فينا وتصوّر ما مات فينا حتّى تعوّدنا على كل من حولنا”.

كم من أشياءٍ جميلة ماتت داخل هذه العائلة؟ أطفال موتى بلا قبور، لا يأتيهم نور هم في ظلام حالك على الدّوام وظلام فقط.
الطّبقيّة تتعمق، وكرههم للأغنياء يتعمق أكثر في عيونِهم الجميلة. يراقبونهم وهم يتنقّلون بملابسهم النّظيفة وفي أياديهم حقائب لـ “ماركات” قد اشتروها من محلّات قريبة عنهم بضعة أمتار فقط.
تركت المكان واستأذنت العائلة مردّدًا السّلام…
عدت أدراجي إلى المنزلِ، تراودني أفكار متشابكة بكثرة، أفكر بإنسانية غائبة، وضمائر ما عاد لها أثر!
أسئلة عبثيّة تدور في رأسي، ما هو مستقبل هؤلاء الأطفال؟ ماذا لو تعرّض أحدهم لتحرّش جنسيّ؟ ماذا عن عصابة الأعضاء البشريّة – لا قدَّر الله – إن استغلَّت أحدهم؟