الأربعاء, مايو 21, 2025
HomeSliderأفكار أوروبية بين واشنطن وموسكو!

أفكار أوروبية بين واشنطن وموسكو!

| دايانا شويخ |

خرج نابليون بونابرت من رحم الفوضى التي أعقبت الثورة الفرنسية، وسعى، مع بداية القرن التاسع عشر، بإعتباره واحداً من أعظم الإستراتيجيين في التاريخ، إلى توحيد أوروبا تحت سلطة إمبراطوريته، بهدف منع أي هيمنة أو تدخل خارجي، خصوصاً من قبل بريطانيا التي كانت تعد العقبة الكبرى أمام مشروعه. ولتحقيق ذلك، عمل على بناء قارة موحدة تقوم على نظام قانوني واحد، وهو ما عرف بـ”قانون نابليون”.

نابليون، الرجل الذي طمح إلى جعل أوروبا قوة مستقلة وعظمى لا تخضع لهيمنة القوى الخارجية، هل كان بالفعل سابقاً لعصره؟
تتلاقى رؤى نابليون لأوروبا موحدة مع التحديات السياسية الراهنة التي تواجه الاتحاد الأوروبي اليوم. حيث يقف أمام مفترق طرق حاسم بين تحالفه مع الولايات المتحدة ومستقبل علاقاته مع روسيا. وفي ظل هذه الصراعات الجيوسياسية المتزايدة، تتزايد التساؤلات حول مدى قدرة أوروبا على تحقيق إستقلالها الإستراتيجي في عالم يشهد تحولات سريعة وغير مسبوقة.

الهوية الأوروبية بين نابليون ومارشال

قضت الحرب العالمية الثانية على الأحلام “النابليونية”. بينما سعى نابليون إلى بناء أوروبا كقوة عسكرية وسياسية مستقلة، جاءت تقلبات القرن العشرين لتطيح بفرصة أن تكون أوروبا لاعباً مستقلاً في الساحة الجيوسياسية. وأصبحت، مع الحرب العالمية الثانية، في موقع التبعية للولايات المتحدة من خلال “خطة مارشال” (Plan Marshall) عام 1948، والتي سبقها إعلان الرئيس الأميركي هاري ترومان عن مبدأ “ترومان” عام 1947 ـ وهو سياسة خارجية أميركية نشأت بهدف إحتواء التوسع السوفياتي ـ وحلف “الناتو” في مرحلة لاحقة.

تجلّت أولى ملامح التبعية الأميركية مع “خطة مارشال” التي ربطت الإقتصاد الأوروبي بأميركا. وترجع خطة مارشال إلى يوم 5 حزيران/يونيو 1947، حين أعلن وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال، في كلمة له في جامعة هارفرد، عن مبادرة لمساعدة إعادة إعمار أوروبا التي خرجت منهكة اقتصادياً وسياسياً بعد الدمار الذي خلّفته الحرب.

يمكن إعتبار “خطة مارشال” إحدى أدوات الحرب الباردة، سواء تم ذلك بهدف محدد مسبقاً أو كأثر لاحق. فقد شكلت هذه الخطة، إلى جانب بعدها الاقتصادي، وسيلة لتحقيق حسابات استراتيجية عبر تعزيز النفوذ الأميركي في أوروبا، مع إمكانية إحتواء التوسّع السوفياتي وتمدّده في القارة العجوز. وكان الهاجس الأميركي هو الخوف من أن تدفع الأوضاع الاقتصادية الصعبة للمجتمعات الأوروبية نحو التعامل مع الأحزاب الشيوعية، مما يشكل تهديداً مباشراً للمصالح الاستراتيجية الأميركية. وقد ساهمت هذه الخطة في تعزيز الاقتصاد الأميركي من خلال عائداتها، مما عزز دور الولايات المتحدة في السوق الأوروبية.

بعد نجاح “خطة مارشال” في توفير الدعم الاقتصادي لأوروبا الغربية، بدأ التوتر يتصاعد مع الاتحاد السوفياتي، خصوصاً بعد أحداث انقلاب تشيكوسلوفاكيا وحصار برلين من قبل السوفيات. هذا التصعيد، دفع الحلفاء الأوروبيين الغربيين بالتعاون مع الولايات المتحدة، إلى إجراء محادثات مكثّفة للتوصل إلى إتفاقية أمنية تهدف إلى مواجهة الخطر السوفياتي. وبذلك أصبح هذا التوتر المحرك الرئيسي لإنشاء حلف شمال الأطلسي “الناتو” عام 1949، والذي أسس كتحالف عسكري لحماية الدول الغربية، حيث أصبحت الولايات المتحدة تدرك أن أمنها القومي مرتبط بشكل وثيق بأمن حلفائها الأوروبيين.

أوروبا على مفترق طرق استراتيجي…أزمة ثقة بواشنطن

بعد أن تشكل حلف الناتو كإستجابة للتحديات السوفياتية وتهديدات الحرب الباردة، ارتبطت أوروبا ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة ضمن إطار أمني مشترك. ومع مرور الوقت، أصبح “الناتو” أساس الاستقرار في القارة. إلا أن واقعًا جيوسياسيًا جديدًا ظهر، حيث استفاق الاتحاد الأوروبي على تحولات كبرى مع اندلاع الحرب الأوكرانية ـ الروسية، التي تُعدّ الأشد سخونة في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. فقد كشفت هذه الحرب عن اختلال موازين القوى في الساحة الأوروبية، خصوصاً مع محاولة روسيا رسم حدود جيوسياسية جديدة، ومنع حلف “الناتو” من التمدد نحو محيطها. وفي خضم هذا الصراع، برز خط سياسي رمادي في أوروبا الشرقية، يميل إلى التفاهم مع الكرملين تحت مظلة أمنية، ويشكك في فاعلية الوعود الأميركية.

وبينما غرقت روسيا في حرب استنزاف، وقفت أوروبا على صفيح ساخن، فهي من جهة بحاجة إلى واشنطن لحمايتها، ومن جهة أخرى عاجزة عن تحمّل أعباء الحرب بمفردها، خصوصًا بعد انقطاع إمدادات الغاز الروسي الذي ألحق ضرراً كبيراً في الإقتصاد الأوروبي الذي بات يواجه تحديات في تأمين مصادر الطاقة البديلة. ونتيجة لهذا الواقع المعقد، باتت دول الاتحاد الأوروبي مجبرة على إعادة ترتيب أولوياتها الدفاعية وهيكلة سياساتها بالنسبة للطاقة، بما يضمن أمنها من دون استفزاز جارتها الروسية.

كما كشفت هذه الحرب عن هشاشة البنية الأمنية الأوروبية التي ما تزال مرهونة للمظلة الأميركية، وللقرارات السياسية الصادرة عن واشنطن والتي تتبدّل مع كل إدارة أميركية جديدة. ويتّضح ذلك بشكل خاص في العلاقة مع حلف شمال الأطلسي “الناتو”، حيث لم يتردد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، سواء في ولايته الأولى أو في تصريحاته الأخيرة، في التهديد بإنسحاب الولايات المتحدة من الحلف، في حال امتنعت الدول الأوروبية عن “دفع فواتيرهم”، بحسب قوله. وقد أثارت هذه التصريحات قلقاً في الأوساط الأوروبية، إذ كشفت عن مدى هشاشة الضمانات الأمنية الغربية. وفي خطاب ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شهر آذار/مارس الماضي، أشار إلى أن بلاده تستعد لمناقشة إمكانية توسيع نطاق الردع النووي الفرنسي ليشمل حماية شركائها الأوروبيين، خصوصاً أن فرنسا هي القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا، وهي تتحمل مسؤولية أمن القارة الأوروبية.

من واشنطن إلى موسكو

جمّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرسوم الجمركية على عدد من الدول، وفي مقدمتها الدول الأوروبية، لمدة 90 يومًا، في محاولة لإحتواء الفوضى التي خلّفها دخول القرار حيّذ التنفيذ. وكان الإتحاد الأوروبي قد سارع، قبيل قرار التجميد، إلى الدعوة لاجتماع طارئ لوزراء التجارة في لوكسمبورغ، لمواجهة تداعيات هذه “العاصفة الاقتصادية” على إقتصادات الدول الأعضاء.

شعرت أوروبا حينها بأنها في مأزق حقيقي، لا سيما مع التراجع الحاد في مؤشرات البورصات الأوروبية، حيث سجلت بورصة باريس أكبر نسبة هبوط مقارنةً بنظيراتها. وفي هذا السياق، عبّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عن قلقه إزاء تدهور العلاقات بين ضفّتي الأطلسي، واصفًا العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بـ”الطلاق غير المتناسق”.
لقد استخدم ترامب الرسوم الجمركية كأداة للضغط وفرض الشروط، فاتحًا باب المفاوضات من موقع القوّة، إلا أن هذه المقاربة وضعت الدول الأوروبية أمام مأزق الثقة في التعامل مع سياسات البيت الأبيض المتقلّبة. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل يمكن أن تدفع هذه العزلة الأميركية المتزايدة الدول الأخرى إلى تشكيل تحالفات جديدة على حساب الاقتصاد الأميركي؟

مع تصاعد هذه السياسات الأحادية، ورفع شعار “أميركا أولًا” على حساب مصالح الحلفاء، تبرز تساؤلات جدية: هل بات بإمكان الدول الأوروبية التخلي عن حليفها الأميركي بعد تزعزع الثقة بين الطرفين؟ هل يُمكن أن تفتح أوروبا صفحة جديدة مع روسيا، أم أنها ستفضّل الانفكاك عن الطرفين وتسعى لتأسيس استقلالية استراتيجية تجعل منها فاعلًا مستقلًا على الساحة الجيوسياسية، بدلًا من أن تبقى ملعبًا يتنازع عليه الآخرون؟

مقالات ذات صلة