الـ”أنا” على ذاتها تنقسم…!

| رندلى جبور |

أنا ضد كل ما هو ضيّق لأن حتى الـ”أنا” تنقسم على ذاتها، وعندها تكثر الصراعات لا العكس، ويكون الموت.

ومن هنا أنا أولاً مع الانسانية وأرفض العنصرية. فعندما ننفتح على الإنسان، مهما كان لونه أو عرقه أو جنسيته أو جنسه أو دينه أو مذهبه، نذهب باتجاه قيمته كفرد. تلك التي كرّستها المسيحية منذ حضورها في ظل الامبراطورية الرومانية بدءاً من اعتمادها كدين رسمي على أيام قسطنطين.

عندما ندرك أن لون الانسان ولهجته ولغته هي فوارق شكلية، وأن انتماء الانسان هو حبر على ورق فرضته الأنظمة البشرية، وأن في كل منّا إيجابيات وسلبيات وخيراً وشراً وأن ليس هناك مطلقات، وأننا جميعنا متساوون في إنسانيتنا، لكنّا تحاشينا الكثير من الصراعات التي أخذت شكل تقاتل الأبيض مع الأسود، والتقاتل الطائفي والمذهبي، ويشهد التاريخ كم من الحروب خاضت البشرية تحت عناوين الفروقات العنصرية والدينية، مع أن الله خلقنا متمايزين لا لنختلف بل لنغتني ونتكامل.
لو آمنّا بإنسانيتنا أولاً، لما غطسنا بمحيطات الدماء.

وأنا مع المشرقية بتنوعها. ولو آمنّا بمشرقيتنا التي تجمعنا في جغرافيتها الواسعة، ووضعنا استراتيجيات تكامل وتبادل في السياسة والأمن والاقتصاد والموارد والثقافة والجذر الحضاري الواحد، لما وصلنا إلى أزمات حدود قادتنا إلى هواجس وجود. فوجود أحدنا مرتبط بوجود الآخر، ومتى تهدّد أي مكوّن من مكونات المشرقية أو وقع، ندفع جميعنا الثمن.

لو كنا مشرقيين حقيقيين لما سمحنا بما حدث ويحدث في فلسطين ودفعنا الثمن التوطين، ولما سمحنا بغزو العراق ودفعنا الثمن تهجير المسيحيين، ولما سمحنا بانهيار سوريا وبتنا في دائرة خطر الارهاب والتطرف، ولما سمحنا باحتلال الغير لنا أو باحتلال بعضنا البعض أو بحروب الاخوة الذين تحوّلوا أعداء، ولما سمحنا بذهاب بعض دولنا إلى حضن من يريد القضاء عليها وعلينا.

وأنا مع اللبنانية الكاملة، بلا شرقية وغربية ومتاريس وطائفية وأوهام التقسيم، وبلا شعور أن هناك منطقة لبنانية وكأنها لا تنتمي إلينا، أو أن هناك حزباً أو طائفة نريد إلغاءها.

ولو كنا لبنانيين حقيقيين، لوقفنا جميعنا بوجه العدو أو المحتل أو المغتصب أو الطامع بدلاً من إلقاء التهم على بعضنا، لأن هذا يخدم المتربص بنا ويسرق حقنا في الوجود.

ولو كنا لبنانيين حقيقيين لما كان تاريخنا سلسلة حروب ومعارك لا تنتهي.

وأنا مع المسيحية بمفهومها الشامل، لا بحمل الصليب شعاراً وحسب، ولا بالخروج عن كل ما يحمي المسيحيين باسم حمايتهم.

ولو كنا مسيحيين حقيقيين لما تقاتلنا مع المسلم ولما خضنا حروباً بين بعضنا، ولما كنا ألف قطعة ومجموعة.

وكل هذا يعني أننا كلما ضيّقنا الدائرة، كلما ذهبنا إلى المزيد من الصراعات، وكلما قسّمنا سنقسّم المقسّم.

وإذا نبذنا الإنسانية، سنتقاتل مع العرق الآخر والجنسية الأخرى واللون الآخر.

وإذا نبذنا المشرقية، ستتقاتل دولها بين بعضها.

وإذا نبذنا الوطنية، سنتقاتل داخل الوطن الواحد.

وإذا ذهبنا نحو الشرنقة، سيتقاتل المسيحيون مع المسيحيين.

وإذا اختار كل منا البقاء لوحده سيتقاتل مع ذاته، لأن الـ”أنا” على نفسها تنقسم وتكون تلك أخطر الانقسامات وأفظع الصراعات.

أليس الصراع داخل المجموعة الواحدة أخطر من ذاك مع الآخرين؟

الأَولى بنا أن نحوّل كل صراع بين الخير والشر، والخير والشر لا علاقة لهما بعرق ودين ومذهب وجنسية، بل إن أصحاب المصالح حوّلوها إلى صراعات بعناوين غرائزية كاذبة!