تصوير عباس سلمان

“حماسة البيك”: “زحطة”.. أم معلومة!

| خلود شحادة |

يبدو أن “البيك” قد “تحمّس” مجدداً، ولكن هذه المرة على المستوى العربي، وليس فقط “تحمس لبناني”، كما عبر عن إقحام نفسه بأحداث 7 أيار.

استيقظ وليد جنبلاط باكراً، بعد أيام قليلة على تسلم أحمد الشرع “الجولاني” الحكم “المؤقت”، قطع تذكرة سفر one way إلى سوريا، ليقابل “قائده وسيده” بحسب ما قال للجولاني خلال المؤتمر الصحافي.

الـone way ticket إلى سوريا، أعادته إلى لبنان جغرافياً، لكنها ألزمت جنبلاط بما كان هو بالغنى عنه.

تقلبات جنبلاط ليست بالجديدة، بل إنها سمة من سمات عمله السياسي، القائم على الإستدارات الدائمة، ولكن لا يمكن القفز فوق “تسرّعه” المفهوم حيناً، والمبهم أحياناً.

وليد بيك، المحنك سياسياً، والذي استطاع أن يكون “بيضة القبان” في معظم المفاصل السياسية، والمحطات المهمة في تاريخ لبنان السياسي والانتخابي، لا يمكن أن يكون قد “زحط” في فخ التغييرات السياسية التاريخية في سوريا.

لا شك أن نظام الأسد، من الأب إلى الإبن، قد ولّى إلى غير رجعة، ولكن أيضاً من أعطى الضمانات لجنبلاط بأن الشرع سيكون الرئيس المقبل في سوريا؟

ما تظهره التطورات في سوريا، هو انشطار عامودي وأفقي في العلاقات بين الفصائل السورية المسلحة، وبين الطوائف والمذاهب والإثنيات.

الأكراد يرفضون حكم “الأخوان”، وتركيا لن تسمح بقيام دولة كردية.

العلويون يعانون من “الإبعاد القسري”، ويشعرون بضرورة حماية أنفسهم.

دروز سوريا اختاروا “الحماية الإسرائيلية”، أي ما يفترض أن يريح جنبلاط من هم “تطييب خاطر” الجولاني لحمايتهم في سوريا.

وتبقى الدولة التي يتم تأسيسها بأفراد ووزراء جميعهم من الملتزمين دينياً، أي أنهم يدورون في فلك “الجولاني”، وتمثل السنّة في سوريا.

إن برّر جنبلاط زيارته “المتسرّعة” لسوريا، أنها ليست في سبيل حماية دروز سوريا بل من أجل توطيد العلاقة مع “النظام الجديد”، فمن أين أتى “البيك” بكل هذه الثقة أن هذا النظام “الإنتقالي” مستمر وثابت ليبني معه العلاقات الوطيدة؟
تشهد سوريا اليوم تغييراً تاريخياً وجذرياً، وتعيش تشرذماً يضع البلاد أمام مرحلة دقيقة، تحتاج للتعامل معها بدقة وحذر شديدين، ومعظم القراءات تذهب إلى القول بأن النظام الحالي ليس سوى جسر عبور من نظام الأسد إلى النظام المقبل الذي سيحكم سوريا.

كان من الممكن أن تكون المرحلة الانتقالية في سوريا “من – إلى”، سَلِسَة، ولكن بحسب التطورات السريعة التي طرأت، من الاحتلال الإسرائيلي إلى النزاعات المسلحة بين الفصائل، وصولاً إلى مشروع التقسيم أو الفيدرالية، تفرض على سوريا مرحلة لن تكون سهلة حتماً، بل يُخشى أن تكون معبّدة بالكثير من دماء الشعب السوري الذي يرجو الحرية البيضاء، نظيفة من دماء الناس التي ذاقت ما ذاقته من مرارة القتل والسجون والتكفير والإقصاء.

من الواضح حتى الآن، أن سيناريو “الفيدرالية” هو الأقرب الذي ينتظر سوريا، في ظل تضارب المصالح بين الأطراف الراغبة بتسلم زمام السلطة، وبين تبعية كل طرف لدولة أو جهة.

لذا، فإن جنبلاط، الذي اعتبر أن سوريا قد تخلصت من “الحكم الديكتاتوري” الذي انقطعت بينه وبين “الإشتراكي” العلاقات منذ فترة طويلة، تسرّع في تشكيل العلاقة الجديدة مع “النظام الانتقالي” الذي لم يعبّر أصلاً عن رغبة وتطلعات الشعب السوري، لأن موقف الشعب يعرف من صندوق الإقتراع، وليس من التصفيق بالشارع لمن قال للناس إنه أضاء شمعة الحرية بعد سنين طوال من القرارات “البعثية”.

وإن برّر جنبلاط لاحقاً زيارته لسوريا أنها في سبيل حل المشكلة التي تتعلق بالمعتقلين في السجون السورية، فإن سوريا التي يصفها الشرع بأنها “منهكة”، ليست جاهزة لحلّ هذا الملف، وأساساً لا يمكن البحث بملف حساس جداً في ظل هذه الفوضى العارمة، بانتظار أن يرسو الحكم بيد أحد ليشكل لبنان وفداً رسمياً.

جنبلاط “الشامت” اليوم بسقوط الأسد، هو ذاته الذي وضعت الكثير من علامات استفهام وتعجب واستغراب سابقاً، على العلاقة “الوطيدة” جداً، التي جمعته بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، عقب اغتيال والده كمال جنبلاط، على الرغم من أن وليد جنبلاط يتّهم سوريا عبر “قوات الصاعقة” التي تعتبر الجناح الفلسطيني لـ”حزب البعث”، باغتيال والده.

علاقة متينة إلى الحد الذي كان يقول فيه حافظ الأسد “ما تزعلولي وليد”، خلال عملية توزيع الحقائب الوزارية إبان تشكيل الحكومات، وخلال الانتخابات النيابية العام 1992 التي جرت بحسب المحافظات، بعكس ما نص اتفاق الطائف، فقط ليكسب وليد جنبلاط أكبر عدد نواب داخل كتلته.

كما أُعطي جنبلاط، بطلب سوري، موازنة قيمتها مليار ونصف مليار دولار خلال تسلمه حقيبة وزارة المهجرين.

وعندما سئل كيف تصافح وتقيم تسوية مع مَنْ قتل والدك، أجاب “مش مستحي، عملتها عشان الجماعة مش الفرد”!
واليوم حتماً، سيبرر جنبلاط مناداته لـ”الجولاني” بـ”سيدي وقائدي” بأنها “لأجل الجماعة والفرد”. نداء أعاد اللبنانيين بالذاكرة إلى مرحلة رستم غزالة، ورضا “الوالي” و”الوصيّ”.

ظل جنبلاط حليفاً لسوريا في الجبل إلى تاريخ وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وإبعاد حليفه رئيس الأركان السوري السابق حكمت الشهابي عن وظيفته، فبدأ يبتعد عن دمشق شيئاً فشيئاً.

“الغرام المستحيل” بين جنبلاط وسوريا لم يستمر، بل تبدد عند إعلان “ثورة الأرز” في 14 أذار 2005، حينها انقلب جنبلاط على الرئيس السوري السابق بشار الأسد والنظام السوري، ملقباً إياه بـ “الأفعى السامة” يومها، ومطالباً بإخراج القوات السورية من لبنان.

من يعرف “وليد بيك”، يدرك جيداً أنه اعتاد، تاريخياً، قراءة ما بين سطور الأحداث التي تجري في لبنان والمنطقة، وكان يُعرف بأنه يمتلك “رادارات” تلتقط الإشارات السياسية المحلية والإقليمية على نحو جيد.. فما الذي حصل اليوم؟هل يستشعر جنبلاط شيئاً مخفياً عن الآخرين؟ أم أنه ترك “إجر بالبور وإجر بالفلاحة”، كعادته، حتى لا يخرج خاسراً من حرب ترسيم الشرق الأوسط الجديد؟ بالعادة لا “يتحمس” جنبلاط ليتهوّر، إنّما يتفنن في خياراته ومواقفه من كل النواحي: الزمان، الظروف، والدوافع.. إلا أنه في هذه المرة قد يكون قد تهوّر على غير عادته.. والمستقبل القريب سيقطع “نزاع القوم” حول قرار جنبلاط، إلا أنه، وكعادته، سيجد مخرجاً حتمياً للأمر ولو اضطر أن يقول “تحمست”.. ولكن هذه المرة من الذي “حمّسه”؟
لا أحد يدري.. ربما حتى جنبلاط نفسه لا يعلم!