كم هو العدد المطلوب.. ليتوقف العدّاد؟

| جورج علم |

أنتجت ثقافة الحرب صرعة جديدة إسمها ظاهرة العدّ. وتحوّل العدّ إلى مهنة، أو “موضة دارجة”. تتوالى الأيام المضرّجة، ويتوالى العدّ. ألفا صاروخ، وأكثر. ثلاثة آلاف شهيد، وأكثر. عشرة آلاف جريح، وأكثر. ومن غير المفيد الدخول في لعبة الأرقام حول عدد المنازل، والقرى، والبلدات، والمناطق التي دمّرت، وسوّيت بالأرض، لأن ليس من إحصاء دقيق، فضلاً عن أن العدّاد لا يزال شغّالا، وفي كلّ يوم رقم جديد، ومع مطلع كلّ شمس مذبحة مروّعة.

وأنتجت ثقافة الحرب أدب “الشعبويات”. شعارات “عنتريّة”، وحناجر حماسيّة، ونظريّات لا قاعدة لها، ولا سقف. وتهديد ووعيد ينتهي بالتأكيد على أن النصر آت. وبقي على المواطن المغلوب على أمره أن ينتظر عند حافّة الهاوية، ويبحث عن الحجّة المقنعة، ويجد المصطلح الموضوعيّ الذي يفي النصر حقّه. لكن من أين يأتي الخصب في زمن الجدب؟ وهل يصلح العطّار ما أفسده الدهر الزاخر بالعهر، والقهر؟!

المؤسف أن “النصر” لم يلج عتبات عين التينة. الجنوب مدمّر، البقاع يفترش السهل ويلتحف السماء، الكيان يتصدّع، والمرتكزات الوطنيّة تميد، ويأتي فوق كلّ هذا مستثمر يفرش سجّادته، يتربّع فوقها، وينتظر موسم “الأوكازيون” ليبيع ويشتري. وإلى أن يحين ذلك الموعد، يمضي في تلقين خاصّته دروساً في الصمود، والمواجهة، والنصر الآتي من المستحيل!

والمؤسف ان النصر لم يلج عتبات السرايا الحكومي. الرئيس نجيب ميقاتي يتحدث عن “رفض الوصاية الإيرانيّة على لبنان”. ويعرب في بيان رسمي “عن إستغرابه حديث رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف عن إستعداد طهران التفاوض مع فرنسا لتطبيق القرار 1701، ونشر الجيش في الجنوب”.

ويشدّد بيان ميقاتي “على أن موضوع التفاوض لتطبيق القرار 1701 تتولّاه الدولة اللبنانيّة. ومطلوب من الجميع دعمها في هذا التوجّه، لا السعي لفرض وصايات جديدة مرفوضة بكل اعتبارات الوطنيّة، والسياديّة”.

هل بدأ زمن سقوط الأقنعة؟

لقد سقطت يوم الثامن من تشرين الأول من العام الماضي عندما فرضت الوصاية الجديدة أن يكون الجنوب جبهة مساندة لـ”حماس” في غزّة. وسقطت عندما كان “المندوب السامي” يزور بيروت مداورة ليلقّن ناسها دروساً في المقاومة والصمود استعداداً للنصر الآتي، والذي لن يصل أبداً. وسقطت عندما تحوّلت الولايات المتحدة إلى مرابي كبير، همّه التفرّد بالقرار، والتفرّد بتوزيع العقوبات، والتشبيح، والتحكّم بعصف الربح، وتحويل جبل الأرز إلى خطّ تماس بين الطمع الإسرائيلي، والجشع الإيراني.

سقطت الأقنعة، عندما كشف بيدر الميدان الزؤان من القمح، وفضح النوايا والخبايا، وما يقوم به الوكيل نيابة عن الأصيل من ممارسات تخدم الإرتهانات المكشوفة الأبعاد والخلفيات. وسقطت عندما تحوّل مجلس الأمن الدولي إلى حائط مبكى، والنافذون فيه إلى زجّالين يتبارزون بقصائد البكائيات، والمرسيات، وببيانات الشفقة على الإنسانيّة المعذّبة ما بين غزّة، ولبنان، والتي تغادر الديار المدمّرة إلى العراء المصفّح بالذلّ، والقهر. وسقطت عندما لا تقوى دول قادرة ونافذة على أن يكون لها الجرأة، والكلمة المسموعة، في تبنّي موقف لبنان الرسمي، ووضعه موضع التنفيذ لإنقاذ ما تبقّى من وطن، وكيان.

أن يلوم الرئيس ميقاتي المسؤول الإيراني قاليباف على موقفه، فهذا من باب تحصيل الحاصل، ولكن ماذا عن الداخل حيث لا تزال بعض المنابر تصدح بالنصر، وتنادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتتكّل على ثقافة العدّ. عشرات، لا بل مئات من الصواريخ لنحر العدو، مقابل عشرات لا بل الشهداء من القتلى والجرحى والبيوت المدمرة والقرى والبلدات المهجورة؟!

وتبرز جملة اعتراضيّة، مفخّخة بعلامات استفهام حول “النصر، والإنتصار”. انتصار على ماذا، وضدّ من؟

انتصار على إسرائيل؟! هذا من سابع المستحيلات في ظلّ دعم مطلق، لا حدود له، من الولايات المتحدة الأميركيّة، ودول حلف “الناتو”، والاتحاد الأوروبي، وعلى كل المستويات، الأمنيّة، والعسكريّة، والماليّة، والإقتصاديّة، والتقنيّة، والمخابراتيّة.
إنتصار على الداخل؟ هذا أيضاً من سابع المستحيلات، خصوصاً بعدما أعلن رئيس وزراء لبنان رفض الوصاية الإيرانيّة على الدولة اللبنانيّة.

التعايش بين الدولة والدويلة سقط في الثامن من تشرين الأول من العام 2023. وقبل هذا التاريخ، كان هذا التعايش نوعاً من الزواج بالإكراه حرصاً على السلم الأهلي، وصوناً للعيش المشترك. والعودة إلى ما كان عليه الوضع قبل الثامن من تشرين، أصبح من الماضي، فإما دولة، أو دويلة. إما لبنان الوطن السيّد الحر المستقل، أو لبنان الوصاية الإيرانيّة. والرفض لم يأتِ هذه المرّة من طائفة، أو مكوّن مجتمعي، بل جاء من رئيس وزراء لبنان، ومن قمّة بكركي الروحيّة التي جمعت النسيج الوطني اللبناني بكل أطيافه وطوائفه. بيان قمّة بكركي وصفه الرئيس ميقاتي “بخارطة طريق” لإنقاذ لبنان.

وعندما يتحقّق الإنقاذ، ويتوقف عدّاد التدمير، والتهجير، وسحق الأرواح عن العمل، عندها يليق الكلام عن النصر، والإنتصار… “ولو بلّلي بقيوا”!