| جورج علم |
لا تريد الولايات المتحدة حرباً إقليميّة. عودة البوارج، بعديدها وعتادها، منع الرؤوس الحاميّة من الإقدام على مغامرة من شأنها أن تلهب المنطقة. هناك أولويات تتقدّم على الأشلاء المبعثرة، مطلعها عودة القضيّة الفلسطينيّة إلى حاضنتها الطبيعيّة ـ العربيّة، ووضع حدّ للمتاجرين الإنتهازيّين، والإنصراف الجدّي نحو حل الدولتين.
الزيارة المرتقبة للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس إلى غزّة، يُعدّ لها، ليبنى عليها. لن تكون مجرّد “بروباغندا” إعلاميّة يطغى فيها المظهر على الجوهر، ولا تعويضاً معنويّاً إستعراضيّاً، بل خطوة مدروسة في مسافة الألف ميل، وقد بدأت تستحوذ فعلاً على قدر كبير من الإهتمام لدى دول القرار.
هناك خريطة طريق قد رسمت بعناية أميركيّة ـ عربيّة، منطلقها واقعي، مصلحي. 11 شهراً من حروب الإستنزاف تكفي. لم تعد الأكلاف الباهظة حكراً على قطاع غزّة، وجبهات المساندة، بل توسّعت لتشمل دولاً، وقطاعات، ومؤسسات. هناك نزف غير مسبوق يكاد أن يصبح عابراً للقارات، وينال من مصالح دول وأنظمة، ويضع المستقبل عند حافة المجهول. وليس من قبيل الترف أن تتحرك جيوش وبوارج وحاملات طائرات، نحو بحار المنطقة، بل هناك مأزق فعلي يملي قواعد جديدة للإحاطة بأطراف الأزمة من منطلق أن الشرق الأوسط ليس حكراً على الإسرائيلي والإيراني، هناك دول، ومصالح، وحسابات، وأولويات تتقدّم. وإن القضيّة الفلسطينيّة ليست حكراً على حركة “حماس”، هناك “منظّمة تحرير”، وفصائل، وحركات، لها دورها وحيثيتها. وإن المعالجات لا تقتصر على مكوكيّة أميركيّة يحيك خيوطها الدبلوماسي أنطوني بلينكن، بل هناك من يحيك على الطرف الآخر، وفي المقلب الآخر، وإذا كان الجذب الراهن حكراً على الإرهاب الإسرائيلي، والطفح الإيراني، فإن المحيط يبقى عربيّاً، وهذا يكفي لكي يكون هو محور الجذب والإهتمام.
وليس تفصيلاً أن يقال إن المفاوضات حول اليوم التالي في غزّة تدور في القاهرة والدوحة. الرمزيّة هنا تعني الكثير. القاهرة حاضنة الجامعة العربيّة، وعاصمة الدولة الأم. والدوحة عاصمة دولة ناشطة تنتمي إلى مجلس التعاون الخليجي، وما بين مصر المتوسطيّة، وقطر الخليجيّة، مغزال يدور، وخيط يمسك بالقضية الفلسطينيّة من بابها حتى محرابها، مهما تنوّعت الخيوط الأخرى، وتلوّنت، وتبدّلت.
تدرك الإدارة الأميركيّة أن الخيوط المكوكيّة التي يحاول أن يشبكها بلينكن، لا يمكن أن تحيك عباءة حل خارج النول العربي، ولا يمكن للمدى العربي أن يبقى مسرحاً حكراً على النهم الإسرائيلي، والطموح الإيراني. لا يمكن لغزّة أن تكون إسرائيليّة، مهما غزُر النزف، وتعمّق الجرح. لا يمكن للكيان الغاصب أن ينشر خيمة السلام بقوّة سلاحه، ووحشيّة ممارساته.، وإذا كانت الأساطيل الأميركيّة مستنفرة لحمايته، فإنها هنا أيضا لحماية مصالحها أولاً، والتي تفقد الكثير من رونقها، ذلك أن حرباً واسعة مدمّرة لن تقتصر تداعياتها على دول المنطقة، بل ستتمدّد لتشمل الولايات المتحدة ومصالحها الحيويّة، وتفتح دفرسواراً واسعاً تعبر من خلاله دولاً لها حضورها ونفوذها، كروسيا الإتحاديّة، والصين، وتركيا، وبعض دول المحور الأوروبي ـ الغربي.
وتلافياً، واستدراكاً لقفزة بهلوانيّة قاتلة، وصلت البوارج للردع، وتوالت العناوين المشفّرة في الظهور. الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس يريد زيارة غزّة، وقرّر القيام بجولة تمهيديّة تشمل المملكة العربيّة السعوديّة، ومصر، ودولاً أخرى. رئيس مجلس الوزراء، وزير الخارجيّة القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى طهران بعد نيل حكومة الرئيس مسعود بزشكيان ثقة مجلس النواب، وتسلّم عبّاس عراقجي مقاليد السياسة الخارجيّة. وزير الخارجيّة السعودي الأمير فيصل بن فرحان في بغداد. جامعة الدول العربيّة على موعد مع وزراء الخارجيّة العرب في الدورة العادية بداية أيلول. الأمم المتحدة تستعيد حيويتها مع بداية دورتها العادية في النصف الثاني من الشهر المقبل. الإتحاد الأوروبي يصطف وراء الإدارة الأميركيّة في الدعوة إلى أقلمة مخالب بنيامين نتنياهو.
لا يمكن التعويل على هذا الحراك، وكأنه بداية النهاية للأزمة المستعرة، ولا يمكن التقليل من شانه، والحدّ من مفعوله الرجعي.
يتحدث بلينكن خلال زيارته الأخيرة للدوحة والقاهرة عن ثلاث أوراق كانت مطويّة، وقد تناولتها أنامل الدبلوماسيّة الأميركيّة مؤخراً، لإعادة فتحها، وتفعيل مضامينها.
الأولى: زيارة محمود عبّاس إلى غزّة ستتم في التوقيت المناسب، وبعد الإنتهاء من الترتيبات، والخطوات التمهيديّة الضرورية. لن تكون زيارة إستعراضيّة. لن تكون مظهراً بروتوكوليّاً، إنما زيارة عمل يفترض أن تضع اللبنة الأولى في القطاع، لتبنى عليها المواصفات المقبولة لليوم التالي في غزّة، والإنطلاق نحو ترشيق المعالم لقيام الدولة الفلسطينيّة، وفق حل الدولتين.
الثانيّة: إعادة الدفء إلى العلاقات مع الخليج العربي، بعدما أدركت إدارة الرئيس جو بايدن أن الوحشيّة الإسرائيليّة المدعومة بالأمصال الأميركيّة قد وضعت الصندوق الإبراهيمي في دائرة الخطر، والمسار التطبيعي في خطر، وأن السعودية، ودولاً أخرى، لا يمكن أن تتقبّل “فاشيّاً” في أحضانها لا تزال أنيابه الحادة مصبوغة بدماء أطفال غزّة.
إن “التطبيع” ـ من منظار واشنطن ـ هو المسار الذي لا بدّ منه لضمان أمن “إسرائيل” في المحيط العربي، ولكن ليس من دون ثمن… أقله العمل على قيام الدولة الفلسطينيّة لإنهاء الصراع التاريخي المزمن.
الثالثة: إن المتاجرة بالقضية الفلسطينيّة، والدم الفلسطيني، لغايات وأهداف، ومصالح توسعيّة، إغتصابيّة، قد تركت ندوباً لا تمحى، ومآسي لا تنسى، واطماعاً لا يمكن تجاهلها أو القفز من فوقها. وهذا الإنحدار القاتل لا يستقيم إلا بتصويب البوصلة من جديد نحو الموانىء الأصيلة الحاضنة، فالقضية عربيّة ـ فلسطينيّة قبل أن تتلوّن بألوان أخرى، وتتزيّ بأزياء لا هي من نسيجها، ولا من عاداتها وتقاليدها. والباب العربي واسع، والحضن وثير… ولا يمكن إلغاء الجغرافيا، ومحو التاريخ!