واشنطن: لا لـ”طوفان جديد” في الشرق الأوسط.. ولكن!

| جورج علم |

وكأن رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد تمكّن من إحداث إنقلاب سياسي ـ إعلامي خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة.

إعلاميّاً:

لا صوت يعلو في المؤسسات الإعلامية الأميركيّة فوق صوت المعركة المفتوحة على طول الجبهة الساخنة من غزّة إلى اليمن. وقد خصّصت كبريات الصحف، والوسائل المرئيّة والمسموعة، حيّزاً واسعاً في الحديث عمّا يجري من فعل وردود فعل بين المحور الإيراني من جهة، والمحور الأميركي ـ الإسرائيلي من جهة أخرى، فيما تراجع الإهتمام نسبيّاً بنشاطات الحملات الإنتخابيّة، سواء للمرشحة الديمقراطيّة كامالا هاريس أو المرشح الجمهوري دونالد ترامب، مع الإشارة إلى أن عناوين الشرق الأوسط لا تغيب عن الخطابات التي تلقى خلال التعبئة الإنتخابيّة.

سياسيّا:

ماذا يفعل وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن منذ نهاية تموز الماضي، ولغاية الآن، سوى البحث عن السبل الآيلة إلى إبقاء الفعل، وردود الفعل ضمن قواعد الإشتباك التقليديّة، وعدم الإنزلاق نحو طوفان عارم، أدهى من “طوفان الأقصى”، ويأخذ في طريقه الكثير من الثوابت والمسلمات التي تستند اليها المصالح الأميركيّة في الشرق الأوسط؟

السؤال عينه ينطبق على وزير الدفاع لويد أوستن المنهمك في تحريك حاملات الطائرات، والبوارج، والطواقم الهجوميّة ـ الدفاعيّة بإتجاه الشرق الأوسط تحت شعار “الزود عن إسرائيل”، وتكثيف إتصالاته مع العديد من نظرائه في دول المنطقة، للتخفيف من حدّة التهديدات، والحرص على أن تبقى قنوات الحوار مفتوحة لتفادي المنزلقات التدميريّة، والفوضى العارمة.
وماذا بقي لمستشار الأمن القومي جيك سوليفان، وفريق عمله، والمؤسسات التابعة، سوى الإنخراط بجهود مكثّفة للحفاظ على الحدّ الأدنى من التوازن في السياسة الأميركيّة تجاه المنطقة، ودول الخليج، تحديداً، لحماية آبار النفط، وطرق إمدادات النفط، وأسواق النفط، وإقتصاديات النفط، والمصالح الأميركيّة القائمة على أهرامات المليارات التي تشكّلها عائدات النفط؟!
وتبقى للناخب الأميركي أولوياته: تخفيض الضرائب، البطالة، السلّة الغذائيّة، الهجرة، الضمان الإجتماعي، والصحي، والتربوي، الإجهاض، فورة السلاح المتفلت، ظاهرة العنف المجتمعي، والتمييز العنصري… إنها أولويات لا تتقدّم عليها أية أولويات أخرى في البرنامج الإنتخابي، لهذا المرشح، أو ذاك، سواء أكان من اليمين أو من اليسار، من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، مع الحرص الدائم على تلميع الصورة الديمقراطيّة الباهتة، من خلال المؤسسات الدستوريّة العريقة كي تبقى الولايات المتحدة في قمرة قيادة “العالم الحر”.

وتشير إستطلاعات الرأي أن الطريق نحو صناديق الإقتراع، في الخامس من تشرين الثاني المقبل، تمرّ حتما بمحاذاة الحرب الأوكرانيّة، وحكماً بالبراكين المشتعلة في الشرق الأوسط، والتي تقذف حممها في كلّ إتجاه. حربان إستهلاكيتان، مكلفتان، وجراح مفتوحة، ونزف دافق، وإستنزاف للطاقات، والإمكانات، وهدر لمئات المليارات من الدولارات تتسرّب وريقاتها من جيب المستهلك… والسؤال: إلى متى؟ وما هي الفائدة؟

تختلف الأولويات الأوكرانيّة، عن تلك الماثلة على مسرح الشرق الأوسط. هنا الحسابات مختلفة، والمقاربات أيضاً. لا تريد الولايات المتحدة حرباً شاملة. لا تريد مواجهة عسكريّة مع طهران، سواء مقنّعة بالبرقع الإسرائيلي، أو بالمباشر، وكل هذا الضجيج الإعلامي المصحوب بقرقعة المجنزرات الهدف منه فتح أبواب الحوار حول مواصفات اليوم التالي، وتفعيل القنوات الدبلوماسيّة للوصول إلى مخارج مقبولة، وقابلة للحياة.

ثلاثة أسباب ضاغطة، على الأقل، تدفع بالإدارة الأميركيّة نحو التهدئة:

1 ـ الإنتخابات الرئاسيّة التي دخلت الدائرة الحمراء، والتي تشغل البيت الأبيض، والكونغرس، وسائر المؤسسات والقطاعات العامة، والخاصة ذات الصلة.

2 ـ إن أي حرب شاملة في المنطقة، وفي هذا التوقيت بالذات، ستفتح الأبواب وسيعة أمام الروسي والصيني للدخول إلى الشرق الأوسط من موقع الشريك الكامل في تحديد مواصفات اليوم التالي، الأمر الذي يرفضه الديمقراطيّون والجمهوريّون على السواء، في هذه البقعة البتروليّة الإستراتيجيّة الخاضعة حاليّاً للنفوذ الأميركي.

3 ـ إن بنيامين نتنياهو، وفريقه المتطرّف، قد “تدلّع” كثيراً على الإدارة الأميركيّة، وكبدّها رصيداً هائلا من الدعم المالي، والمعنوي، والعسكري، واللوجستي، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لغاية الآن، ووضع مصداقيتها تجاه العالم العربي، والإسلامي ـ ( أكثر من 60 دولة، ومنظمة. وأكثر من مليار ونصف المليار بشري) – أمام أسئلة مصيريّة كبرى؟
لهذه الأسباب، ولغيرها، ينشغل الإعلام الأميركي، ومعه الطواقم الدبلوماسيّة، والعسكريّة، للجم التصعيد بأي ثمن، وإرغام نتنياهو على الإمتثال للمعادلة التالية:

“القطار الأميركي هو الذي يجرّ المقطورة الإسرائيليّة على الخط الإستراتيجي في هذه المنطقة الحساسة من العالم، وليس القطار الإسرائيلي هو من يجرّ المقطورة الأميركيّة في الشرق الأوسط!”.

وتبقى في الحقيبة الدبلوماسيّة الأميركيّة ـ (أيّاً يكن الفائز في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل) ـ أولويات ثلاث:
الأولى ـ إستعادة ثقة الخليجييّن، والعرب، بعدما ذهبت إدارة الرئيس جو بايدن بعيداً في الإنحياز، تحت شعار “أمن إسرائيل خطّ أحمر أميركي”. تدرك واشنطن أن تحت هذا الخطّ الأحمر أكثر من 100 ألف شهيد، ومفقود فلسطيني، وعشرات الألوف من المعوّقين، وتدمير كامل لقطاع غزّة، من دون التوصل إلى تفاهم حول مواصفات اليوم التالي!

الثانيّة ـ لا يمكن للإدارة الأميركيّة الإستمرار في المراوغة. تتحدث عن الدولة الفلسطينيّة، وتمارس ضدها حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي، وتثني على سياسة الرفض الإسرائيليّة، سواء تلك المتبعة من قبل “حكومة الحرب”، أو من الكنيست!

الثالثة ـ إن المنطقة لم تعد تعير كبير إهتمام للمزاجيّة الأميركيّة، و”لإزدواجيّة المعايير”. إن سياسة “الراعي، والقطعان” قد إنتهت … ويقف على أبواب المنطقة اليوم كلّ من الروسي، والصيني، ودول “البريكس”، وسياسة تعدد الأقطاب في مواجهة القطب الواحد… ولم يعد للغطرسة المدى الرحب في سماء المنطقة.