|علاء حسن|
كثيراً ما نسمع هذه الأيام عما ستفعله ايران، ومعها “حزب الله” والقوات اليمنية، ثأراً لدماء الشهداء، و رداً على تجاوز الكيان الصهيوني الخطوط الحمراء المفروضة بواقع المعركة الدائرة منذ عشرة أشهر، وقد لا نبالغ إذا ما قمنا بجولة على المنصات الإخبارية وصفحات الـ”سوشيال ميديا” ووجدنا أن الحرب الكبرى في المنطقة قد قامت، وأن على الناس في دولنا تحضير أنفسهم لسنوات عجاف تحول معيشتهم إلى ما كان يصور لنا في الأفلام عن الحرب العالمية الثانية.
وقد يكون لهؤلاء الناس شيء من الحق، لما رأوه من إجرام صهيوني في غزة خلال الأشهر الماضية، وصمت أممي لم يتمكن من ردع المجرم ولا مناصرة المظلوم.
لكن يبقى أن للحقيقة أوجه أخرى يجب الإضاءة عليها، وهي أن سيناريوهات الحرب اليوم قد لا تكون قريبة بالمقدار الذي نتصور، وأن تحولات موازين القوى الإقليمية قزّمت الكيان الصهيوني إلى درجة لم يستطع معها حسم المعركة في غزة المحاصرة، منذ عشرة أشهر، ولم يتمكن من ردع جبهات الإسناد على الرغم من الجهد اليومي له ولغزة طيلة هذه المدة.
هذه الحقيقة كفيلة بإعادة النظر نحو قدرة “إسرائيل” على رفع مستوى الصراع في المنطقة إلى مستوى الحرب، والوقوف عند السيناريوهات الممكنة، والتي قد تكون بديلاً عن “الحرب الكبرى”، لأنه لا معنى لحرب مقبلة ما لم تكن “كبرى”، وأن نظريات الحروب السابقة لم تعد صالحة، لا من حيث التكتيك العسكري ولا من حيث الإدارة الاستراتيجية للصراع.
وعلى هذا الأساس ثمة محددات، تفرض الواقعية الوقوف عندها، ومن بعدها يمكن تقديم رؤية، عما يمكن أن يحصل في الأيام أو الأسابيع القادمة:
مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة ترغب في أن يتوقف القتال في الشرق الأوسط، بما يخدم “إسرائيل” ويخرجها منتصرة، حتى تتفرغ لملفاتها الأخرى، وهي لن تسمح بذلك بالطبع، فيما لو خرج الكيان مهزوماً من أرض المعركة كما هو الوضع منذ بداية “طوفان الأقصى”. وبالتالي، وبصرف النظر عما سمعه نتنياهو في واشنطن، فإن سيناريوهات اغتيال القادة، ومن بينهم التأكيد الصهيوني على اغتيال محمد الضيف، أتى في سياق رسم صورة المنتصر لنتنياهو، المدعوم من اللوبيات الصهيونية، وبالتالي، القادر على فرض الشروط في عملية وقف اطلاق النار. ولذا نجده، وبعد رميه الكرة في ملعب المقاومة، يعلن أنه غير معني بالحرب، ومن ثم يرسل وفداً إلى مصر لاستكمال عملية التفاوض.
إلا أن حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر، فقد أعلنت إيران أنها سترد على عملية الاغتيال التي اعتبرتها مساً بشرفها قبل أن يكون مسّاً بأمنها القومي، لكون الاختراقات الأمنية وعمليات الاغتيال تحدث في كل الدول، وأولى مؤشرات قوة الرد أتى عبر اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني لدى المرشد وبرئاسته، ولم يلتئم في مقره وبرئاسة رئيسه رئيس الجمهورية.
من جهة أخرى، أتى موقف “حزب الله” الذي أعلنه الأمين العام للحزب غاية في الدهاء، فلقد فصل بين عمليات الإسناد المرتبطة بغزة، وبين الرد على استهداف الضاحية واغتيال الشخصية الرئيسية في المقاومة. وهو بذلك أعاد الكرة إلى الملعب الصهيوني، حارماً الأخير من تحقيق هدفه. وعلى هذا المنوال أراد محور المقاومة القول للكيان إن الشرط الأول الموضوع لوقف جبهات الإسناد، والمرهون بتوقف القتال في غزة، لا يزال ساري المفعول وضمن قواعده الميدانية، وأن الرد على تجاوز الخط الأحمر سيكون منفصلاً.
لكن ما هي حدود الرد والثأر التي تحدثت عنها كل من إيران و”حزب الله” واليمن؟
من غير المتوقع في هذا السياق أن تتجاوز إيران القوانين الدولية بشدة، لأن من شأن ذلك خلق تكتل دولي ضدها في هذه المرحلة، وهو أمر لا تريده إيران بالتحديد، كما أنه من غير المنتظر تعامل إيران مع الدول العربية على أنها معادية، حيث يمكن بسهولة استرجاع فكرة الصراع الفارسي ـ العربي والشيعي ـ السني، وتضخيم الحالة المعادية لإيران في مرحلة انفتاح على المحيط. وهو أيضاً أمر يشكل ضربة لها، ولن يكون في صالح المسارات التي تخطوها في المنطقة. أضف إلى ذلك، فإن هذه الضربة يجب أن لا تضر بالتوازنات القائمة، منعاً لانزلاق نحو الحرب وتغيير حاد في الوجهة الجيوسياسية للمنطقة والذي سيؤدي إلى تبدلات كبيرة، من غير المعلوم كيف ستكون نتائجها ومن الذي سيخرج منتصراً منها، فضلاً عن إعطاء فرصة للدول المعادية لها بممارسة العنف الشديد ضدها، عسكرياً واقتصادياً، وهو أمر تضعه ايران في الحسبان.
في المقلب الآخر، يعلم “حزب الله” أن أوان الحرب الشاملة مع الكيان لم يأت بعد، وأنه، منذ دخل في النادي السياسي الاقليمي والدولي، لم يعد باستطاعته التصرف بمعزل عن تأثيرات وانعكاسات أدائه العسكري على الإقليم، وخصوصاً على حلفائه، ولذلك لن يقدم على عملية من شأنها الإضرار بمصالح الدول الراعية للكيان إلى الحد الذي يمكن أن يستجلب رداً مباشراً منهم، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
أما بالنسبة للمقاومة العراقية، فإنها معنية بالتزام سقف الدولة، والحفاظ على الحكومة الحالية والكيان القائم، الأمر الذي سيجعلها في حالة تأهب وإسناد أكثر منها حالة هجوم يلقي بظلاله على الدولة (العراق) الضامنة للاستقرار في المنطقة.
وفي هذا السياق، يبدو أن اليمن هي الأكثر تحرراً من القيود الدولية وحسابات التوازنات، ولكن يبقى موضوع قدرتها على إيلام العدو بشكل مباشر هو العنوان الذي سيحكم كيفية ردها على عدوان الحديدة.
حسناً.. إذا كان محور المقاومة محكوم بهذه المحددات، فهل الطرف الاسرائيلي والأميركي متحرر منها؟
الحقيقة إن الطرف الأميركي خصوصاً، مقيد بالحفاظ على تركيبة التوازنات الحالية أكثر من غيره، ذلك أن تبدل هذه التوازنات سيؤدي إلى انهيارات متتالية لكل ما بناه خلال عقود طويلة من الزمن في هذه المنطقة. وبالتالي، إذا ما افترضنا أن الحرب ـ إن وقعت ـ ستكون مختلفة عن حرب تموز 2006، من حيث التوسع الجغرافي وشدة الصراع العسكري، فهذا يعني أن نقاط الارتكاز ومصالح الطاقة والبنية العسكرية في المنطقة سوف تكون في دائرة الاستهداف، الأمر الذي سيؤدي إلى انهيار اقتصادات ودول، وتغيير حاد في الخريطة الجيوسياسية، ليس في المنطقة وحسب بل أوسع من ذلك بكثير.
هذه المحددات، بالإضافة إلى عجز الكيان خوض الحرب لوحده، والدفاع عن نفسه لوحده، توصل إلى نتيجة منطقية وهي اللاحرب حالياً.
واللاحرب لا يعني تقبل الاسرائيلي للردود والثأر والسكوت، بل يعني خسارته لهذه الجولة. وبالتالي يجب انتظار معالم الجولة اللاحقة، أو كما أسماها قادة محور المقاومة “المرحلة الجديدة”، وفق قدرة الأطراف على المناورة تحت سقف الحرب، واللعب على حافة الهاوية.
أخيراً، من قال أن المنطق السليم هو الذي يحكم عالمنا؟ فكم من تحولات تاريخية حصلت نتيجةً لجنون قرر هدم الأسس المنطقية. بل قلّ، من يعلم ما إذا كان هناك تقديرٌ ما، له رأي آخر، يسوق الأمور نحوه؟