لبنان يترقّب “إصلاح” بزشكيان!

| جورج علم |

يأخذ لبنان مكانه على الشرفة الديمقراطيّة، يتكئ على أريكة الإنتظار، يتابع باهتمام مسار صندوقة الإقتراع الجوالة من لندن، إلى طهران، إلى باريس. إنقلابات سلميّة. لا جنرال متغطرس يطلّ من نافذة ثكنة، ليعلن “الأمر لي”. ولا دبابة هائجة تجوب شوارع المدينة المرتعشة، تزنّرها بسلاسل فولاذيّة. ولا قرقعة سلاح في وسط العاصمة تنبىء بنظام الحديد والنار… بل صفوف طويلة من الإرادات الحرّة، تقف أمام فحص ضمير، لتنتخب قناعاتها.

لفظت بريطانيا المحافظين، واختارت العمال، وبقيت الأنظار شاخصة لمعرفة حقيقة الموقف من غزّة، وجنوب لبنان. لا تكتمل ثوابت سياستها الخارجيّة إلاّ بالتنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة حول سائر القضايا الكبرى في العالم، وربما تنتظر نتائج الأنتخابات الأميركيّة، لمعرفة من سيجتاز عتبة البيت الأبيض في الخامس من تشرين الثاني المقبل، هل الذي يعاني من “نزلات البرد”، أم الذي يعاني من “زلاّت الغطرسة”؟!

وزير الخارجيّة ديفيد لامي يقول إن السياسة تجاه الشرق الأوسط ستكون متوازنة منفتحة. هناك محطات ثلاث لإختبار “النوعيّة” في لبنان: الأولى ما يجري راهناً حول غزّة، والجنوب، والموقف البريطاني من الترتيبات الأمنيّة. الثانيّة، موقف بريطانيا في مجلس الأمن الدولي، وخارجه، من موضوع التجديد لقوات “اليونيفيل” في الجنوب، نهاية آب المقبل، وهل سيكون الأمر محاصراً بشروط تفرض على الحكومة اللبنانيّة، أم وفق “تمريرة” سلسة روتينيّة؟ الثالثة، هل ستمضي لندن قدماً في بناء سلسلة الأبراج على طول “الخط الأزرق”، إستكمالاً لسلسلة الأبراج على الحدود اللبنانية ـ السوريّة، ووفق أيّ شروط، وتفاهمات؟

الجديد الذي يُبنى عليه، أن ملف القاعدة البريطانيّة في قبرص، قد عاد من الصخب الإعلامي، إلى دائرة الهدوء، بعدما قدّم “حزب الله” ما يمكن توصيفه بأنه “تلطيف” للسقف العالي الذي رسمه الأمين العام السيّد حسن نصر الله. هذه العودة تضفي صدقيّة للسياسة التي ينتهجها الوزير لامي، والهادفة إلى الإنفتاح والتوازن.

إلاّ أن الإهتمام الكبير كان يطوف وراء صندوقة الإقتراع عندما بلغت الديار الإيرانيّة. هناك الحسابات الصعبة حول ما يمكن تحقيقه من الأهداف المرجوّة. انتصر الإصلاح، وفاز الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان، وبقي الإنتباه شاخصاً لمعرفة فريق العمل، وجدول الأولويات، وبواكير الإنفتاح على الغرب.

وعبّرت برقيات التهنئة عن المشاعر التي تراوحت ما بين الحماس والفتور. وصيغت تلك الصادرة عن الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله بعبارات منتقاة بنباهة، وإنتباه. وإنطوت على كثير من التفخيم وفيض العاطفة، لكن في طيّ بعضها شيء من القلق حول متانة حبل السرّة الذي يربط طهران بمحور المقاومة مستقبلاً، خصوصاً إذا ما قيّض لباب الحوار أن يُفتح على مصراعيه حول شؤون المنطقة وشجونها.

والتوصيف عينه ينطبق على ردود الفعل الروسيّة ـ الصينيّة، المرحّبة والمهنئة. هناك كمّ من علامات الإستفهام حول المدى الذي سيبلغه الإنفتاح على الغرب، وإنعكاساته على سلامة وصلابة المحور الروسي ـ الصيني ـ الإيراني في مواجهة سياسة “القطب الواحد” في الشرق الأوسط، والعالم.

مسار الإصلاح طويل، ومعقّد، وهو بحاجة إلى قاعدة إنطلاق لم تتوافر عناصرها بعد. من سيكون وزيراً للخارجيّة؟ الإسم و”الكاريزما”، هنا، وفي هذه المرحلة المفصليّة الإنتقاليّة، لهما دور ووقع. وهل ستبقى السياسة الخارجيّة مزوّدة بحقيبتين، الأولى في عهدة “الحرس الثوري”، والثانيّة بعهدة وزير الخارجيّة.. أم ستكون متحرّرة من قيود كثيرة تفرضها الديناميّة الجديدة لتحرير الإقتصاد الإيراني من الحصار، والعقوبات الدوليّة؟ ثم ما هي حدود هذا الإنفتاح؟ وما المدى الذي سيمنحه المرشد الأعلى لفريق العمل الرئاسي، كي يمارس دوره ليحقّق المكاسب التي ينتظرها المجتمع الإيراني؟

ما من شك أن إيران إختارت التغيير. أو بكلام آخر، إختارت كيف يمكن أن تواكب وتتعايش مع المتغيرات في المنطقة، والعالم.

ملف غزّة على الطاولة، وعلى إيران أن تقول الكلام الفصل في التوقيت الصائب، حول “حماس”، ومستقبلها داخل القطاع، وخارجه. ودورها، وحضورها، والوظيفة التي ستسند لها؟ عليها أن تقول كلمتها في الترتيبات الأمنيّة، ومواصفات اليوم التالي، سواء قي غزّة أو جنوب لبنان. والمسألة هنا لا تحتمل أيّ قدر من المماطلة، والمناورة، والتذاكي، والهروب إلى الأمام تحت طيف من الشعارات الشعبوّية. وعندما تُزفّ ساعة الحقيقة، على الجميع أن يكون جاهزاً لملاقاتها بالمواقف الواضحة.

ولبنان، الصابر المتكىء على أريكة الإنتظار، ينظر بانتباه وتمعّن شديدين إلى الإنعكاسات على الساحة الجنوبيّة المساندة لغزّة، والترتيبات الأمنيّة التي يكثر الحديث عنها وحولها، ومدى القدرة على تلقفها أو رفضها. كما ينظر بتمعن وانتباه إلى الإنعكاسات على الاستحقاقات الداخليّة، وفي طليعتها الانتخابات الرئاسيّة، وإعادة بناء المؤسسات.

وبهذا القدر من الإستفهام، والتعجب، يلاقي لبنان صندوقة الإقتراع لدى بلوغها الديار الفرنسيّة. إستفهام مخضّب بالاستغراب: هل يعقل أن تكون الديمقراطيّة الفرنسيّة ولاّدة أزمات، بدل من أن تكون ولاّدة حلول؟ قوّة القرار تنتقل من مكتب الرئاسة، إلى البرلمان. ودولة كبرى تدار برأسين في السلطة التنفيذيّة، بعدما كانت تدار برأس متشاوف. وأولويات داخليّة تتزاحم حول أفضليّة المرور والمعالجة، بدءاً بالأزمة الاقتصاديّة، وإرتفاع كلفة السلّة الغذائيّة، مروراً بالضمان الاجتماعي، والصحيّ، وصولاً إلى ملف الوافدين من جنسيات وأصقاع مختلفة، وكيفيّة ضبط الإيقاع ما بين الدعوات إلى التكيّف، أو الرفض والتأفف…

إن لبنان الصابر، لم يغرف غلالاً، ولم يقرّص عجيناً، عندما كان “البيدر الماكروني” في عزّ غلاله، وذروة عطائه، فكيف الحال الآن وسط هذا الكسوف الذي يحجب بريق الأمل؟! كان ينتظر أن تبلغ صندوقة الإقتراع مشارف بيروت، بعد انتهاء وظيفتها في باريس..لكن يبدو أن الإنتظار سيطول!