نثروا التراب على بعضٍ مني!

| علاء حسن |

كَذَب من قال إن توطين النفس يخفف أَلَم المصاب…

انتظرتك البارحة ساعات طويلة لكي أراك. ساعات كانت كفيلة بتعريف من أنت في نفسي. لم تكن قدماي تحملانني بعيداً عن مكان العروج. كنتُ متيقناً من استشهادك، لكن شيئاً ما في داخلي كان يغلي، وكأنني في غياهب الجبّ، أسلّم على من يحتضنني. أبكي تارة وأهدئ من روع الآخرين تارة أخرى… لكن عيناي كانت شاخصة على المبنى، لعلني أرى بعضاً منك، تفاصيل منك استوطنتي منذ شُبهت بك في أولى سنوات مراهقتي ورافقتني بعدها طوال عمري…

كَذَب من قال إن توطين النفس يخفف أَلَم المصاب..

رغم أنني كنت انتظر اللحظة التي أسمع فيها نبأ استشهادك بعدما رأيت منك ما رأيت، ليس فقط بعد استشهاد روحك التي بين جنبيك، بل حين تحدثت قبل أكثر من سنتين عن مسيرتك وخنقتك عبرتك عند الحديث عن أمنية الاستشهاد.. حينها طلبتَ كوباً من الماء من “محمود”، لكن هذه المرة لم يركض نحوك، بل عانقك لتذهبا سوياً إلى حيث تشتهيان. ولمحمود حكايا مع الحب والذوبان فيك…

كَذَبَ من قال إن توطين النفس يخفف أَلَم المصاب..

حين نظرتُ إليك مسجّى يقوم خادم الأبرار بتجهيز جثمانك الطاهر، تذكرتك حين غمرتني بعد رحيل سماحة الشيخ وأجهشت بالبكاء قائلاً: “نايم.. نايم بهدوء”. كنتَ أنت كذلك نائماً بعمق، عيناك مغمضتان كي يستريحا من قلّة النوم. لم تكن ميتاً.. كلا.. كنتَ تغط في نوم عميق، وتحلم بالسيد كي يستقبلك وينفض عنك غبار التعب وعصف الانفجار..

رأيتُ أحدهم يحاول أن ينفض عن شفتيك الدم والتراب، منعته فوراً. لم أحدثه، ولكن قلت في نفسي دعه يريد التأسي بسيده في كربلاء حين قال سلام الله عليه: “هكذا ألقى ربي مخضباً بدمي”.

كَذَبَ من قال إن توطين النفس يخفف أَلَم المصاب..

لم أكن أعلم أن قطعة من روحي معلّقة بك حتى رأيتك وبكيتك.. بكيتك بحرقة الشهداء جميعاً. اليوم بكيت السيد في بكائي عليك، وبكيت الأحبة.. لم يعد للثبات معنى عندي حين بكيتك.. بكيتك فحسب.. هكذا حصل ولم أمنع نفسي منه، فعبثاً حاولت حبسها طوال الفترة الماضية كحزن مؤجل، وعبثاً لعبتُ دور الصلب، الصلابة التي انهارت لحظة رؤيتك مسجى أمامي.

حين أنزلوك إلى مثواك الأخير رأيتُني هناك، رأيت بعضاً مني يُنثَر التراب عليه.. خرجت وأنا أفتقد شيئاً مني لم يعد معي.. نظرت إلى وجوه الحاضرين، لم أكن أعلم مَنْ يعزي مَنَ ومَنْ يواسي مَنْ.. للجميع ذكريات لا تنسى معك، ومواقف أبوية لا تُمحى من وجدان من عرفك.. وأنا بدوري سوف أشتاق لك.. ربما بدأت، لا أدري..

سيتحدث الجميع عن القائد الذي تصدّى للأمانة حين البأس، وحمل الراية مقداماً عند الوهن، أو عن ذكريات تتعلق بحكاياك وتحليلاتك..

لكن أكثر ما سأفتقده هو لازمة اللقاء الدائمة، تلك اللازمة التي رافقتني سنوات حين كنت ألتقي بك، لازمة البداية عندما تقع عيناك عليّ: “أهلاً.. كيفك خالو؟” يصطحبها ابتسامة…