زيارة “الخط المستقيم”.. لتفادي التقسيم!

| جورج علم |

جاء لينشر أمناً وسلاماً. لم يأت الكاردينال بيترو بارولين، أمين سر دولة الفاتيكان، من خلفيّة سياسيّة، ولا تملك دولته ترسانة مجنّحات، ومصانع “نيترات أمونيوم”، ليسوّق لها. زيارة متواضعة، من دون ضجيج، تحمل رسائل محبّرة بعمق المعلومات، وصدق التمنيات.

الشرق الأوسط ـ من منظاره – أمام منعطف كبير، لا تريد الولايات المتحدة حروب استنزاف مكلفة. تكفيها الجبهة الأوكرانيّة، وشلالات المليارات المتناثرة هباء. هنا رحاب الحضارات، ورحيق الامبرطوريات الغابرة المنبعث من جديد تحت أقواس نصر مزدانة بألوان المصالح والمطامع والمطامح. لا تريد التورّط بالمباشر. لا تريد فيتنام ثانيّة، ولا أفغانستان جديدة في الشرق الأوسط، يكفيها عصف الأهوال بغزّة، والترددات الإقليميّة والدوليّة التي وضعت الإدارة الأميركيّة في قفص الإنحياز، والإتهام.

جاء يهمس في مجالس المهابة والوقار بأن الخطوط المتعرّجة كثيرة في المنطقة، هناك خط واحد مستقيم ما بين واشنطن وطهران، وحوله تدور الخطوط المداريّة. المبادرة الفرنسيّة لفظت أنفاسها بعد حلّ الجمعية الوطنية، والدعوة إلى انتخابات مبكرّة. وتحول مقعد الرئيس إيمانويل ماكرون إلى كرسي هزّاز. الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة في إجازة صيفيّة مفتوحة بعدما تعبت تعباً مبرحاً على مدى عام ونصف من دون أن يغطّ طير على دبقها.

الولايات المتحدة تعرّت كثيراً، فقدت مصداقيتها، لا تريد أن تخسر العرب، ولا أن تفرّط بـ”إسرائيل”، وما لم تدع حدّاً لحرب الإبادة المدمرة في غزة، فإن الأبواب المخلّعة ستبقى مشرّعة أمام أنواء وأعاصير خارجيّة تمليها لعبة المصالح. ولا ريب أن الروسي هنا، والإيراني أيضاً، والصيني، والتركي، وأحلام الامبراطوريات الغابرة التي تتحول من جديد إلى أحلام يقظة!

الخطّ البيانيّ عنده يشير إلى “ترويكا” أميركيّة ـ إيرانيّة ـ إسرائيليّة، يصار إلى تثبيت قوائمها للانتقال من مرحلة إلى أخرى، ومن حروب استنزاف، ومقابر جماعيّة، وأسراب متلاحقة من طيور الشؤم، إلى هدنة “اليوم التالي” في غزّة، وجنوب لبنان، وامتداداً، إلى سائر “جبهات المساندة” المنتشرة على طول “محور الممانعة”.

إن مظلّة أميركيّة لا تكفي وحدها، مهما بلغ شأنها وحجمها. و”وحدة الحال” الأميركيّة – الإسرائيليّة سقطت بضربة المقاومة القاضية. ليس قليلاً، بعد تسعة أشهر من القتال والنزال، أن تسعى واشنطن، وبإلحاح منقطع النظير، إلى إيجاد منفذ، أو مخرج، أو تسوية تحفظ بعض ماء الوجه للكيان الغاصب. الخط المستقيم بين واشنطن وطهران مرشّح أن تدبّ فيه الحرارة، ويتحول إلى خط ديناميكي ساخن، ينشّط ويفعّل الخطوط المدارية الأخرى في المنطقة، بما فيها الخط اللبناني المشدود على نول المقاومة، و”محور الممانعة”.

قال في بكركي كلاماً مسموعاً لمن يريد أن يسمع. كان حازماً بكياسة. وصارماً بهدوء ووداعة، وتفاوتت ردود الفعل، ربما لإعتبارات سياسيّة – مصلحيّة، أو ربما لأن البعض أراد أن يسمع ما يريد أن يسمعه غير مكترث بباقي التفاصيل.
حمل لاءات ثلاثة:

• لا تفتيت، ولا تقسيم، ولا تجزئة تحت أيّ عنوان فدرالي.
• لا مؤتمر تأسيسي، بل الطائف، وإلى الطائف در.
• لا صراع ثقافات، بل إنفتاح، وحوار، وتفاعل. “لبنان وطن الرسالة”، هكذا يريده الفاتيكان.

وحمل قناعات ثلاث:

• آن الأوان لوضع حدّ للفراغ. سنتان تكفي. إنهارت مؤسسات الدولة، وأصبح الوطن رهينة الفوضى، وأيّ تسوية، مهما كانت منصفة، لن تنصفه في ظلّ الرؤوس الحامية، والكيديات المتفاقمة.
• على المسيحيين أن يتواضعوا ويستخلصوا العبر من كل المبادرات التي رافقت انفجار مرفأ بيروت، لغاية الآن. لم تسعفهم الرياح، ولا يتمكّنوا من رفع السواري. ورئيس للجمهورية في رأس السلطة، أفضل من التعنّت، وخسارة ما تبقى.
• إن القيادات الروحيّة ـ من منظاره ـ قيادات وطنية، ويستحسن أن تضطلع بدورها الوطني الرعوي الجامع. دور إنساني، وأخلاقي، وتنويري، ومبادرات صادقة تحفّز قنوات الحوار، والتلاقي، وتتعالى فوق الهفوات، والثغرات، والنواقص.

لم يحمل “معجزة”، ربما لا قدرة له عليها. وربما زمن “المعجزات” قد خسف بدره، لكن طيف الرئيس نبيه بريّ كان حاضراً داخل الصرح البطريركي، وخارجه، من خلال الإقرار بدوره “كرافعة” لا غنى عنها للوصول إلى أكمة الاستحقاق الرئاسي. إنه الأساسي، بإشارة منه تفتح أبواب ساحة النجمة، وبإشارة تبقى مقفلة. والرصيد المتبقي، أو الخمير الذي تركه الكاردينال، قبل أن يغادر بلاد الأرز، لتخمير العجين الرئاسي. هو التواضع “تواضعوا. إقرأوا جيداً المتغيرات من حولكم. إستخلصوا العبر من كل المبادرات التي عبرت عتبات وطنكم. طلّقوا الفراغ. إنتخبوا رئيس. إلتزموا الحوار. أعيدوا بناء الدولة والمؤسسات”.

يقال إن طيف الرئيس برّي كان حاضراً، وتقمّص بـ”الوشوشات الخوشبوشيّة” بين جبران باسيل، وسليمان فرنجيّة!

… ويبقى سؤالان يترددان في فناء الزيارة: هل خمير الكاردينال سيأتي مفعوله في العجين الرئاسي؟ وهل “وشوشات” الرئيس نبيه برّي ستقنع جبران باسيل بإنتخاب سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة؟!

* الآراء الواردة في المقالات تعبّر عن رأي كاتبها ولا يتحمّل موقع “الجريدة” أي مسؤولية عن مضمونها *