| جورج علم |
ما بين التهديد بعدوان واسع، واستمرار حرب الإستنزاف، يقترب الجنوب من “اليوم التالي”، متكئاً على استفهامات صعبة. ما هي المواصفات؟ وهل ستكون ضمن “صفقة” شاملة تسعى إليها إدارة الرئيس جو بايدن قبل أن تذهب إلى صناديق الإقتراع في تشرين الثاني المقبل؟ أم وفق “ستاتيكو” على ضفتي الحدود، حيث أمضى الجنوب فترة لا بأس بها من الهدوء والإستقرار إستمرت منذ نهاية شهر أب 2006، ولغاية 7 تشرين الأول 2023؟ أم وفق إتفاقيّة الهدنة، ومندرجات القرار 1701؟
إنطلاقاً من هذه الخلفيّة، إكتسبت زيارة جان إيف لودريان أهميّة. لم يأتِ ليتعرف على وجوه ألِفها، ولا ليستمع إلى “مداخلات” حفظ عباراتها غيباً، ولا ليهدر وقتاً ثميناً ينفقه في فضاء الفراغ. كان هنا، لأنه يفترض أن يكون حيث تقتضي المصلحة الفرنسيّة العليا للحفاظ على حضور، وتثبيت موقع قدم في ورشة الإنشغال بمستقبل الجنوب، وإستطراداً مستقبل لبنان.
الرجل دبلوماسي مخضرم. و”مهندس العهد الماكروني” على امتداد الولاية الأولى، ويوميات الولاية الثانيّة. صحيح أن في فرنسا حكومة شبابيّة، ولكن “المعتّقات الفاخرة” تبقى في عهدة “الخوابي الدهريّة”. إنه واحد من رجالات المرحلة الإنتقالية في فرنسا، والمكلّف بمتابعة يوميات المرحلة الإنتقاليّة في لبنان، والشرق الأوسط. يأتي على متن مستجدات، مهمّته تقصّي تداعياتها إنطلاقاً من الجنوب الغارق “بطوفان الأقصى”، وصولاً إلى قصر بعبدا الغارق بالفراغ. الأمور غير متروكة. ولا يقتصر الخبر على الميدان ” قصفوا.. وقصفنا”، بل على ما يجري من هندسات أمنيّة وسياسيّة لمستقبل الجنوب، ومستقبل لبنان.
قد يصحّ الكلام عن “جبهة مساندة”، في ميدان القتال، لكنّه لا يصحّ في ميدان الدبلوماسيّة. ومواصفات اليوم التالي في غزّة، مغايرة تماماً لمواصفات اليوم التالي في الجنوب. هناك مصير أرض، وشعب، وقضيّة، ومرتكزات دولة يفترض أن تبصر النور ضمن ما يسمّى بـ”حلّ الدولتين”. وهنا وطن، وحدود معترف بها دوليّاً، وإتفاقية هدنة موقعة بين لبنان و”إسرائيل” بإشراف الأمم المتحدة في 23 أذار 1949، وطائفة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي بدءاً بالقرارين 425 و 426، تاريخ 19 آذار 1978، وصولا إلى القرار 1701 في آب 2023. لذلك، ما يُبدبر من هندسات أمنيّة ـ سياسيّة ـ إعماريّة ـ إقتصاديّة للجنوب، يحمل بعض تصاميمها لودريان، كونه واحد من أبرز المهندسين المنخرطين في هذه الورشة التي تديرها الولايات المتحدة، مع “الإقرار بالعلاقات التاريخيّة” التي تربط فرنسا بلبنان.
رافق لودريان في زيارته إلى بيروت رهط من الأسئلة حول المستقبل. مرّر بعض الإيحاءات، واستمع بانتباه إلى ردود الفعل، ليدعم وجهة نظره حيال ما يرسم من “هندسات” لمستقبل الجنوب.. وبالتالي مستقبل لبنان.
وتستند “أهميّة الزيارة”، إلى أهميّة التوقيت:
أولاً ـ تستند إلى التنسيق الفرنسي ـ الأميركي المكثّف. اجتماعات، واتصالات، وخلايا عمل، ومراكز دراسات تعدّ الملف اللبناني الذي سيعرض على القمّة الفرنسيّة ـ الأميركيّة مطلع حزيران المقبل.
ثانياً ـ لم تأتِ المشاركة الفرنسية في التصدّي للصواريخ الإيرانيّة ضدّ “إسرائيل”، في نيسان الماضي، من باب الدعاية، وحجز مكان في الصورة إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا، بل جاءت نتيجة تخطيط، وعمق دراسة للخلفيات والتداعيات. ولا يمكن للحكومة الإسرائيلية، أيّاً تكن، سواء بزعامة بنيامين نتنياهو أو غيره، أن تتجاهل دور فرنسا في أي مسعى يتمّ التوافق حوله لإخراج الجنوب من تحت المطرقة والسندان.
ثالثاً ـ لا يمكن التفريط بالدور المادي، والمعنوي، الأمني، والسياسي، الذي تلعبه الكتيبة الفرنسيّة ضمن قوات “اليونيفيل”. لحضورها نكهة خاصة مستخلصة من العلاقات التاريخيّة، قادرة على التكيّف مع المستجدات الميدانيّة، خصوصاً عندما تصبح المنطقة العازلة مطلباً أميركيّاً ـ أمميّاً، ولا يعود مقتصراً على تل أبيب، والمواصفات التي ينادي بها وزير الحرب.
رابعاً ـ لا يمكن الفصل بين توقيت زيارة لودريان إلى بيروت، و”التوقيت الإستثنائي” الذي تجتازه إيران، الغارقة في إعداد موقفها من مواصفات “اليوم التالي” على طول الجبهة المفتوحة، إنطلاقاً من غزّة، مروراً بالجنوب، وسوريا، والعراق، وصولاً إلى اليمن، في مرحلة ما بعد الرئيس إبراهيم رئيسي.
إن عملية الرصد هذه حول ما يجري في طهران راهناً، لا تقتصر على فرنسا، بل تشمل معظم دول العالم، خصوصاً تلك المهتمّة بشؤون الشرق الأوسط، وشجونه. ثم ألم يكن لافتاً، على سبيل الذكر لا الحصر، غياب الرئيس السوري بشّار الأسد عن مأتم التشييع الرسمي للرئيس الإيراني؟ إن هذه “الرمزيّة” لها ما لها من دلالات وخلفيات في هذه المرحلة الدقيقة التي تجتازها المنطقة، وتحديداً دول “جبهات المساندة” لغزّة.
خامساً ـ إن إنشغال “أمراء الطوائف” بـ”تفتيش جيوب” لودريان بحثاً عن مبادرة، يشير إلى أمرين: الأول، أن الحل في الداخل يصبح ممكناً عندما يحلّ “ترياقه” من الخارج. وكما هناك رهان على دور فرنسي، هناك رهان على “الخماسيّة”، ورهان على دور واشنطن، وطهران، وعواصم دول أخرى نافذة، صاحبة مصالح، وتسعى إلى إطلالة إقتصاديّة على المنطقة من الشرفة اللبنانيّة. والثاني، أن فرنسا صاحبة مبادرات، منذ انفجار مرفأ بيروت، مروراً بانفجار الفراغ، وصولاً إلى انفجار الوضع في الجنوب. لم يكتب لها النجاح، ولكنها باقية، مستمرّة، قابلة للتفعيل. الرسالة التي حملها لودريان إلى “أمراء الطوائف”، بأن يلاقوا الجهود الدبلوماسيّة، ولا يبقوا “أمراء التعطيل”!