“الرأي” إن وجد.. من يحق له إبداؤه؟

| علي فضّة |

ربما نحن بين أحرف أعقد المواضيع وأكثرها جدلًا، سيما أننا سنحاول معالجة وتفكيك أمور غاية في الأهميّة، هما “الرأي العام” و “الرأي”، بلغة بسيطة بعيدة عن تعقيداتهم كأساس لوجودهم الجدلي على النحو المعاصر أم التاريخي!

هنا نواجه، بالمباشر، علّة من علل الليبراليّة، القديمة منها والحديثة، والعولمّة التي طغت بدورها واستولت على مفاهيم كثيرة، وجرّدتها من الضوابط والمعايير بجعلها مباحة دون قيود حسيّة أو علميّة ومعرفيّة، ليسهل استغلالها بطبيعة الحال. وكإسهام في تعزيز منهجية هذه السياسّة، سُنت قوانين وأُصدرت مراسيم ووظفت وسائل إعلام لتكريس مفاهيم، من دون معايير، تؤدي بالنتيجة إلى فوضى مجتمعيّة وسياسيّة واقتصادية مصانّة بـ “حقوق” يجري توظيفها أينما اقتضت الحاجة.

سيلزمنا في معالجة هذا الأمر، التزام “النقد” كوسيلة علميّة منطقيّة، وأداة، لمواجهة جيوش، وكتب، ودراسات، أُعدت لإحباط أي محاولة تسلسل بين الغثّ والسمين من الآراء أريد لهما أن يكونا واحدًا في التوظيف تحت عنوان “حرية الرأي والتعبير”، بالتالي حكمًا التأثير بـ “الرأي العام”.

“النقد يعطي لأحكامنا مقياسًا يسمح لنا بالتمييز الصحيح بين العلم والتظاهر بالعلم” (إيمانويل كانط)

الرأي العام:

لا يوجد تعريف محدد لمفهوم “الرأي العام”. هذا شيء طبيعي، لأنّ هذه الكلمة الفضفاضة لاقت جدلًا كبيرًا، حتى عندما كانت تنطلق من “سبر الرأي” كمسلك مقبول “شبه استطلاعي احصائي“ من الجميع، ولكنها في غالب الأحيان لم تفلح، لوجود هوة بين المفهوم العام لأي حالة غير محسوسة، أو قانون أو قرار أو وثيقة سياسيّة، المراد دراسة ردود الأفعال عليهم، والذين ينطلقون في طرحهم من كينونة رؤيويّة جماعية وإستبصاريّة اختصاصية غالبًا، أو محددة، لتصل الحالة المطروحة إلى “المتلقي” ـ الفرد أو الجماعة ـ بمفهوم أساسًا عندهم هو أقلّ استيعاباً ومُنطَلق أقلّ شرحًا، أكثرهم يكونون غير مُدرَكي الأبعاد والإحاطة المطلوبة للحُكم، لكن ليس بالضرورة أن لا يكون هناك من بينهم رأي سديد في تلك الحالات، شريطة أن تكون الردود بمستوى الطرح، أقله معرفيًا.

رغم جدليته، تعددت المحاولات لتعريف “الرأي العام”. ولأنه مفهوم معقّد ومُرَكب، وغير مستند لقواعد علميّة ثابتة، وتفاوت ثقافي انطولوجي “وجودي” بين العامة والنُخب، أريد له هذا التيه.

نبذة استهلالية عن “الحس المشترك”:

الحسّ المشترك، من دون الغوص عميقًا في جدليته الدالة بالضرورة إلى ما يصبوا إليه المقال، سيما بعد صراع بين المدارس الفلسفيّة القديمة التي همشته والجديدة النقدّيّة التي عومته.

يمكن رسم خطوط التفكير في هذا المشكل بافتراض معنى أول عن “الحس المشترك”، يفضي إلى معنى ثان “الحس السليم”، يُشتَقُّ من الأول ولكنه يتماشى مع آلية التطوير التي خضع لها التفكير الفلسفي عبر التاريخ.

مفهوم “الحس المشترك”:

لغة: وحدة المعرفة الحسية والرأي المشترك (العام اليوم)

اصطلاحاً: الفطرة السليمة (كدلالة على الإدراك المعرفي لتشكيله).

دلالة فلسفية: الرأي السديد والحكم الصائب والذوق الحسن والروح الطيبة والقلب المبصر (أي دون توظيف او نوايا مبيتة وأجندات ممنهجة) .

بالعودة إلى هنا يجب أولًا تعريف “رأي” ثم تعريف “عام”.

يقصد بـ “الرأي” وجهة نظر علنية لكل إنسان تجاه مسألة مثيرة للجدل، أو مُراد أن تثيره – هذا بحدّ ذاته دور وظيفي بلبوس مُنِح كحق وَظَّفهُ مرات كثيرة الباطل “دون تعميم”- أو للنقاش، ويُعبَّر عن وجهة النظر هذه بالكلام أو بمقالات أو مقابلات، مما يسمح ويمكن من تقريب وفهم حقيقة محددة أو تضليل مقصود أو تشويش متعمّد. وهنا لا بدَّ من التمييز بين التوجُه أو الاتجاه والتَوجِيه والحكم المعرفي الإدراكي، وصولًا إلى “الرأي” الذي غالبًا ما يكون منبته إما النوايا على اختلافها أو القضيّة.

أما “عام” فتعني بمنطق التضّاد ما لا يعد “خاص”، أي أنه لا يتعلق بالفرد بل بمجموعة أفراد يرتبطون بمجتمع أو جماعة  تعبّر عن رأيها.

عودة  إلى “الرأي”:

بداية، يجدر بنا أن نشير إلى أن حريَّة التعبير عن الرأي قد كفلتها دساتير الدول المتحضرة، وتتشدق في نيلها الدوّل الناميّة من بوابات الليبراليّة المشرعة المصالح الخادمة لمشروعها ومصالحها الرأسماليّة، بالتالي السياسيّة بتفرعاتها كافة، وهذه الحرية أقرّتها اتفاقيات ومواثيق الأمم المتحدة منذ عقود من الزمن، مثال ذلك:

أولاً: “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” المُعتمد في ديسمبر/ كانون الأول العام 1948، حيث نصت المادة (19) منه “إن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة دون تقيد بالحدود الجغرافية”.

ثانياً: “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” المُعتمد في ديسمبر العام 1966 حيث جاء في المادة رقم (19) منه كذلك:

” 1 ـ إن لكل إنسان الحق في اعتناق آراء دون مضايقة.

2 ـ ولكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”.

هذه بالمجمل عناويّن طوباوية وظيفيّة، ليبقى السؤال، أين المعايير؟! بغياب المعايير تغيب الضوابط، وبغياب الضوابط يصبح كل شيء مباح، أو بالأحرى “محطّ توظيف” كأدق توصيف، لأغلب المواثيق والقوانين، غياب الحاكميّة على العناوين، تجعل الفوضى تتسيَّد، وبما أنّ محور مقالنا هو “الرأي” يجعله ذلك متساوي (المساواة) بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهذا بحدّ ذاته ضرب بالصميم لمفهوم العدالة وفلسفة الفكر.

وعليه، إن عملية الحدس والإستقراء التي دعت الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن يطلق مقولته الشهيرة “أنا أفكر إذن أنا موجود”، حيث برهن بيقين على أنه موجود طالما أنه يفكر وصاحب رأي، والرأي الابن الشرعي للفكر “إن وجد”.

تشكل الفكر:

ممكن أن يتشكل عند كل إنسان فكره الخاص الذي مهما بلغت درجة معرفته ووعيّه وثقافته، ينبغي عليه المرور بباب علم المنطق، شريطة أن لا تكون مستلة أفكاره، بالتالي آراؤه، من رياض أماني السذاجة أو العمالة الوظيفية – غير المباشرة – أو من منابع عبادة الذات والنرجسيّة، طالما يتعلق الأمر بفلسفة علوم رفيعة ترفع من قدر وقيمة الإنسان وعلّة وجوده الإنساني على وجه الخصوص، وأن تكون بعيدة عن الحقد والشخصانيّة، كي لا يفقد المرء قيمته الفكريّة وذاته الإنسانيّة.

السياسة والرأي:

مروراً بما يثار في الحقل السياسي وعلاقته بها، لكون السياسة لغويًا هي “استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل” بجذر معناها اليوناني، أو أنها  “علم وفن“. علم تتفاوت عناصر تكوينه عن علوم الطبيعة، يمتثل للمواصفات الإنسانية والاجتماعية، وفن تُحدد ركائزه أساليب التصرف بما يتلاءم وينسجم مع إدارة دفة أي تحدي وجودي أو إنساني، وما تنص عليه القواعد القانونية والنصوص الدستورية والقيم الأخلاقيّة والإنسانية. وهنا ينبغي القول ـ إذا جاز لنا التعبير- أن نمنح مصداقية صفة فلسفة التعبير السياسي، لكل سياسي يحلو له أن يتمنطق بما يشاء، نكون قد انجرفنا في تيارات اللامصداقية والحشو والديماغوجيّة الوظيفيّة والدرك الأسفل من الإستصلاح للخلق.

طالما نضفي الصفة الفنية التي تؤطر علم السياسة من خلال منهجية واضحة الأبعاد والمفاهيم، بين صراعات وجوديّة، أبعادها استراتيجية وظواهر تشويشيّة، وبحكم المنطق والعقل، والالتزام بحصر “الرأي” إن كان يعتبر كذلك فعلًا – عندهم – بحدود الفهم الإدراكي، وإلّا لا الدساتير الفضفاضة أو المواثيق والمعاهدات “غب الطلب” ستشفع لجهلٍ لبوسه “رأي”. وشتان بين ما ذكرناه أعلاه، وبين “الرأي” ومن يحقّ له إبداؤه، إن وجد كحقيقة، أو مادة علميّة متأصلٌ بها “الإدراك” بمفهوم أرسطو الدال على الملكة المعرفية بالمواضيع المطروحة، أقله .