| جورج علم |
إنها الحرب، وأي خطأ في التصويب، قد يدفع بالأمور نحو المجهول، ويفتح باب جهنم على كل الخيارات والإحتمالات. لكن في ذروة السجال والإنفعال، ولد في حضن مجلس الأمن الدولي قرار يدعو إلى وقف لإطلاق النار في غزّة. كان الهمّ طوال الأشهر الماضيّة حول ضرورة أن يصدر، أصبح الهمّ الأن حول كيفيّة وضعه موضع التنفيذ!
لم تمارس الولايات المتحدة، هذه المرّة، حق النقض “الفيتو”، وإمتناعها عن التصويت، فُسّر وكأنه إمتناع عن تحمّل المسؤوليّة، فاسحة المجال أمام من بلغوا أعلى الشجرة أن يجدوا الوسيلة التي تضمن لهم نزولاً آمنا، إذا كانوا فعلاً يعارضون القرار، ويرفضون الإمتثال لمندرجاته.
مارست البرغماتيّة هذه المرّة إلى أقصى الحدود. لم تعارض رغبة 14 عضواً في مجلس الأمن يريدون وقفاً للمجزرة في غزّة. إمتنعت عن التصويت، خفّفت من وطأة العزلة الدوليّة التي بدأت تحاصرها إثر إقدامها مرّتين في السابق على إستخدام حق النقض “الفيتو”، وحوّلت نفسها نقطة إرتكاز وسط الدائرة. الكلّ بحاجة إليها. الكل ينتظر دورها في تدوير الزوايا الحادة، والإنطلاق في ورشة بناء الإستقرار.
كان وزير خارجيّتها أنتوني بلينكن في المنطقة، قبل صدور القرار، وطرح على من التقاهم أفكاراً حول رفح، وإدخال المساعدات، ومواصفات “اليوم التالي” في غزّة.
تزامناً، تمّ التصويت على قرار مجلس الأمن في أعقاب الجولة. شاءته واشنطن خريطة طريق كاملة متكاملة، لكن بمحطات عدّة. هدفها الوصول أولاً إلى “استراحة المحارب” تمهيداً للتوغل في الدهاليز المعتمة بهدوء وفعاليّة.
وتزامناً، قّدم رئيس الحكومة الفلسطينيّة محمد مصطفى حكومته الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس. الحكومة بمعظمها جديدة، ولا تضمّ حركة “حماس”. ستة وزراء على الأقل من غزّة سيتولون وزارات الصحة، والأشغال العامة، والمواصلات، والأوقاف، والعدل، والإتصالات. وتتطابق مواصفات الحكومة مع مواصفات “اليوم التالي” في غزّة. ومهمّتها، إصلاح المؤسسات، وقيادة جهود الإغاثة، وإعادة الإعمار في القطاع.
وتزامناً مع قرار مجلس الأمن، أجرى رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنيّة محادثات مكثّفة في طهران حول “اليوم التالي”. وتتناسق محادثاته مع ورشة الجهود الدوليّة التي تبذل في أكثر من عاصمة لمنع الإجتياح الإسرائيلي لرفح، وفتح المزيد من المعابر أمام المساعدات الإنسانيّة، والحصول على ضمانات موثوقة، في حال قرّر قادة “حماس” مغادرة القطاع.
وتمّت الزيارة، وملحقاتها، وفقاً لرغبة إيرانيّة ـ فلسطينيّة مشتركة، ذلك أن طهران تريد أن تقدّم جديداً إلى طاولة المفاوضات في مسقط، وتشارك الأميركي في إدارة حوار بناء حول مختلف الملفات الساخنة والضاغطة، بما في ذلك ملف العقوبات الماليّة الإقتصاديّة، ونسبة تخصيب اليورانيوم، وصولاً إلى مستقبل الجبهات المفتوحة من غزّة إلى باب المندب، وما يمكن التفاهم بشأنه حول الإستراتيجيّة الجديدة في المنطقة، ومدى إمكانيّة حمايتها من التمدد الصيني، والطموح الروسي.
ويبقى السؤال: هل يؤدي هذا الحوار غرضه، ويسهم في وضع قرار وقف إطلاق النار موضع التنفيذ؟
تعوّل طهران على مدى جديّة واشنطن، وقدرتها على تبريد الرؤوس الحامية في تل أبيب. وأمامها وقت ضيّق لإنجاز خطوات مهمّة، منها على سبيل الذكر، لا الحصر:
1 ـ هل ستمنع نتنياهو من اجتياح رفح، ووضع حدّ لمخططاته العدوانيّة التوسعيّة، أم أن الدعم مستمر لتحقيق بنك الأهداف المشتركة؟
2 ـ هل من تغيير حكومي في كيان الاحتلال الإسرائيلي يوازي التغيير الحكومي عند السلطة الفلسطينيّة لتنفيذ خريطة الطريق حول “اليوم التالي” في غزّة؟
3 ـ هل من دولة فلسطينيّة تريدها واشنطن، وتبادر إلى الإعلان عنها، وتحشد التأييد الدولي حول مسار واضح يأخذ بعين الإعتبار تنفيذ القرارات الدوليّة ذات الصلة؟
أما في لبنان، فقد تلقت بيروت، مطلع الأسبوع، إشارات دبلوماسيّة من واشنطن وباريس تؤكد الإستمرار في ضبط النفس، وأن العمل جار على أعلى المستويات، وأكثر من صعيد، لأن يشمل قرار وقف إطلاق النار في غزة، جبهة الجنوب. لكن بالمقابل، تريد الولايات المتحدة، وتصرّ، على دعم مطلب “إسرائيل” في التوصل سريعاً إلى ترتيبات أمنية تساعد النازحين على العودة إلى منازلهم. والخيارات مفتوحة، إما حوار يقود إلى “يوم تالي” في الجنوب، مختلف تماماً بمواصفاته وتوازناته عمّا هو سائد حاليّاً على أرض الواقع، وإما إعصار يبرّر عقد إجتماع طارىء لمجلس الأمن الدولي يصار خلاله إلى وضع القرار 1701 تحت الفصل السابع، وإعادة النظر بمهام القوات الدوليّة “اليونيفيل”، وتحويلها إلى قوّة ضاربة مدعومة من الدول الكبرى المنخرطة في عديدها، ونشر نوع من المظلّة الدوليّة فوق لبنان لإعادة بناء الدولة والمؤسسات، وفقاً للقرارات الدوليّة ذات الصلة.
إنه لمنعطف مكلف، لا يوجد ما يؤكد لغاية الآن احتمال حصوله، كما لا يوجد ما يؤكد احتمال تفاديه، خصوصاً إذا ما خاضت طهران مع واشنطن مباراة التصفيات النهائيّة.
وعندما تكون الأوطان مجرّد مظلّة من الورق، فإن عصف الريح يمكن أن يأخذها في الاتجاه الذي يريد!