مواصفات “اليوم التالي”.. في عهدة “الباب العالي”!

| جورج علم |

يطلّ لبنان من مشارف الأزمات الكبرى الضاغطة في الشرق الأوسط، مزنراً بعلامات استفهام “مدروزة” بعبوات القلق حول المستقبل والمصير.

وتتفلّت عن السيول الجارفة التي تشكّلها المواقف المشحونة بالغضب، أصداء تشي بأن الخارج هو من يرسم اللوحة، ويحدّد الخطوط، وينتقي الألوان، وأن على الداخل أن يتلقف الجداريّة كما هي، رغم الضجيج الذي يفتعله، لإثبات الحضور، وضمان الاستمرارية.

وبانتظار أن يحدّد الخارج ساعة الصفر ليزفّ “التسوية المنتظرة”، يبقى الداخل أشبه بخليّة من الدبابير الهائجة بمزيد من الطنين، دون مردود رصين.

من حمل راية “التحرير”، وأتقن ثقافة التبرير، وإرتضى دور “النصير”، قد مكّن حضوره، وأنجز هيكليّة مؤسساته. جيش مدرّب. أسلحة حديثة متطوّرة. قيادة مركزيّة قويّة. عقيدة سياسيّة وإيمانيّة. استراتيجيّة عابرة للحدود. بنك من الأهداف السريّة والمعلنة. نظام مالي ومصرفي. قطاع إقتصادي. قطاع تربوي. قطاع إستشفائي. قطاع خدماتي. ميزانية شفّافة. بيئة حاضنة. يخاطب منطلقاً من مواقف وشعارات لا تقنع الآخر، ولا تلقى عنده آذانا صاغية.

ومن حمل راية “الحياد”، وأتقن ثقافة الإرشاد، يحاول أن ينفض الغبار عن الصيغة، والميثاق، وينفخ روحاً في رميم الدستور. جديده صيغة من حواضر البيئة السياسيّة، الهدف منها تحفيز الهمم الخاملة، والضمائر المتماهلة، وإنجاز الاستحقاقات، والإمساك بما تبقى من زمام وطنية، وتفعيل الشراكة، واعتماد خيار “صنع في لبنان”، لا في “بلاد الأميركان”، ولا عند الجيران، لكن النتيجة حتى الآن مقرونة بعبارة “اللهمّ قد بلّغت!”، لأن البيت بمنازل كثيرة، وكلّ منزل يغنّي على ليلاه منتظراً الخارج كي يأتي ويفرض تسوية، أو يحفر كوّة في الجدار المسدود ليدخل الأوكسجين!

وما بين جنوب ساخن، وداخل واهن، تتنوّع المقاربات، وتكثر الملاحظات.

أول الملاحظات، أن “النصر” لم يحجز بعد المكان الذي يليق به على أيّ من الجبهات المفتوحة. يتردّد الإسم في الخطابات الحماسيّة كمصطلح يبنى عليه لرفع المعنويات، لكن لا مكان له في الحسابات الجارية في واشنطن، وبعض العواصم، حول مواصفات اليوم التالي. الكل يبحث عن تسوية تحفظ له بعضاً من ماء الوجه. الكل يناور في رفع منسوب الشروط، لكن المشرف على الحقائق كما هي على أرض الواقع، يعرف مكامن القوة، ومكامن الضعف عند الأطراف المتصارعة، ولأنه يعرف، يحاول أن يفصّل لكل عروس لبوسها!

ثانياً ـ في الحالة اللبنانية، تبدو المواصفات غير متطابقة. يتردّد “النصر” فوق الكثير من المنابر، لكنه يفتقر إلى حجّة مقنعة، إلى مردود بحجم الكلفة الباهظة، والأثمان المدفوعة لغاية الآن. قد يكون الحرص على الإستمرارية في الداخل، والجنوب من الطموحات غير القابلة للنقاش، لكن ما بعد “طوفان الأقصى” ليس كما قبله. هناك “اليوم التالي” في الجنوب، كما في غزّة، وخريطة طريق جديدة، فإما تمرّ في الوسط اللبناني وتشطره إلى شطرين، أو تحوط به من كل حدب وصوب، لتفرض تسوية، وتسدّ المسارب التي تتغلغل منها رياح مدمّرة.

ثالثاً ـ لا تقبل بيروت، المنفتحة، المتنوعة، أن ترتدي ثياباً مرقّطة، وتحتضن قيادات “ثوريّة”، واجتماعات عسكرية، تحت شعار تنسيق المواجهة، وترشيدها. إن بعضاً من هذه الأنشطة قد خرج إلى الإعلام، صوتاً وصورة، لكن أمواج البحر لا تأتي متساوية متناسقة، وعندما تذري زبدها على الرمال تنفضح المقادير والأحجام. هكذا الحال مع هذه الظاهرة التراكميّة التي حوّلت بيروت إلى “غرفة عمليات” تشرف على جبهة مفتوحة من غزّة إلى باب المندب، مروراً بلبنان، وسوريا، والعراق، وصولاً إلى اليمن. الحلفاء في الداخل لم يصفّقوا. لم يكن مزاجهم صافياً. لم يكتفوا بقلب الشفاه، بل بقلب الحسابات وعلى قاعدة أن مثل هذا التنسيق والتعاون لا يحمل قيمة مضافة، بقدر ما يحمل سكاكين صدئة تنكأ الجراح، وتنفض الغبار عن ذكريات مؤلمة لا تزال حاضرة في خاطرة اللبنانييّن.

رابعاً ـ ان البيئة الحاضنة صابرة، لكنّها فاترة، أصابها النزف بوهن لا تخفى عوارضه، لا يمكن تحمّل حرب استنزاف مرهقة، من دون أفق، من دون وضوح. البيئة الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة لا تسمح، فكيف إذا كان الفراغ مهيمن، والمؤسسات غاربة، والدولة مجرّد جدران متداعية، من دون سقف.

خامساً ـ المقاومة ليست وحدها في الجنوب.هناك اتفاقيّة الهدنة، والقرار الدولي، قوّات “اليونيفيل”، وآموس هوكشتاين، ومخابرات أكثر من 20 دولة مشاركة في عديد القوات الدوليّة، وجيش لبناني له عقيدته، ومرجعيته، ومجتمع متعدّد له تطلعاته، كما له خياراته، ولا يمكن إرغامه على الصعود إلى مقطورة يجرّها قطار نحو محطة إفتراضيّة لا يريدها. وهناك ثلاثيّة جيش، وشعب، ومقاومة في الجنوب، لكنها غير مدعومة بوحدة وطنية متراصّة متماسكة تسند إليها ظهرها، في زمن الفراغ، والضياع.

إن اليوم التالي في الجنوب ـ كما في غزّة ـ لا تصنعه الشعارات الشعبويّة، ولا تفرضه الإرادات المسلّحة، بعدما أصبح في عهدة الكبار من الولايات المتحدة، إلى الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، إلى الدول الكبرى المؤثرة في الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج. وعندما يتحرّك الكبار، يمتثل الصغار. وقديما قيل: إحذروا الفيلة، فعندما تتحرّك، قد تأخذ في طريقها الكثير من القصب، في فورة غضب!

error: Content is protected !!