لبنان

موسم “الشرنقة”.. ولبنان من دون “حرير”

/ جورج علم /

نجح الثنائي الشيعي بمصادرة الإستحقاق الرئاسي، واشترط الحوار كممر إلزامي لفك أسره، متكتّماً حول خريطة الطريق، متحفّظاً حول الخطوة التي ستلي، سواء استجيب طلبه وانطلق الحوار، أو قُوبل بالرفض، واستمرت المراوحة. إنه المكون المتكىء على وحدة الصف، والموقف، والسلاح، وأيضاً على تحولات أقليميّة تهبّ رياحها وفق ما تشتهي أشرعته.

نجح في امتلاك “أسرار أمنية” بسلاسة، وحسن تنسيق، وتدبير، وتعاون مشترك. ونجح في امتلاك “أسرار ماليّة”، عندما استأثر بحقيبة المال، واعتبرها حقّاً ميثاقيّاً في مزرعة الطوائف والمذاهب. ونجح في امتلاك “أسرار مصرفيّة” خلال ولاية رياض سلامة، ويحاول أن يستكمل البقيّة الباقيّة من خلال نائبه الأول المفترض أن يحلّ مكانه اعتباراً من نهاية هذا الشهر، ويحاول امتلاك “أسرار” الدوائر العقاريّة، واكتشاف الخفايا، والخبايا، بفرض توظيفات الأمر الواقع، ومع امتلاك القرار.

ولا يتوقف فائض القوّة عن الخربشة على كتاب الطائف، وجدران الطوائف. يقينه أن الحق للقوّة، وعندما تحضر القوة لا يبقى من مكان للدستور، يصبح مجرّد وجهة نظر، أو مظلّة نجاة، يمكن استخدامها إذا اقتضت الضرورة، لتفادي الإرتطام المميت.

ليس وحده. الكلّ عطّل وخربش، وإن بنسب متفاوتة، والكل مسؤول عن الإنهيار، لكن التحدّي يحاكي اليوم مصير الوطن، والكيان، والنظام، والميثاق، والدور، والوظيفة لهذا اللبنان على خريطة الشرق الأوسط الجديد.

المأزق أن الدول المؤثرة لا تريد الحوار، ولا التوافق، لأن مواصفات مصالحها لم تتطابق بعد مع أيّ لبنان تريد. إنها تنصح: “ساعدوا أنفسكم، كي نساعدكم. انجزوا الإصلاحات، كي تأتي المساعدات”. لكنها تعرف سلفا بأن الحوار والتوافق من الممنوعات، وما لم تتأمن له المظلّة الخارجيّة الحاضنة، يبقى مجرد سراب.

أما دعاة الحوار في الداخل، فهم في موقع اتهام من قبل مكونات أخرى لها مآخذها، من تجاوز المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان ورفض الامتثال لقراراتها، إلى تجاوز الرئيس القوّي ووسم عهده بإنجازات تساوي إنهيار وطن ومؤسسات، إلى تجاوز إنفجار المرفأ وسدّ منافذ التحقيق بأسلاك شائكة، إلى تجاوز الانهيار المالي والمصرفي بمؤسسة “القرض الحسن”، إلى تجاوز التحقيق الجنائي، والمحاولات الدؤوبة لدفن صفحاته في مقبرة النسيان… ثمّ من يملك هذا الكم من القدرات ليس بحاجة إلى الحوار إذا ما كان مطمئناً إلى حاضره، ومستقبله. إن ما بلغه من هالة، ودور، ونفوذ، لا يثنيه رأي مغاير، ولا يغريه حوار، بل يكمل، ويتابع برباطة جأش، لينجز ما خطّط له، ويصل إلى الهدف الذي يصبو إليه، وهو الملتزم بمنطق الفوقيّة، والمعتدّ بالقوّة، والمدجّج بعقد تاريخيّة يريد إصلاحها عنوة، مستنداً الى ولاءات خارجيّة، وتحولات إقليميّة ودوليّة مؤاتية.

إلاّ أن الإطمئنان عنده يبقى نسبيّاً، وربما ظرفيّاً، لأن ما بين القمّة والقاعدة وهدات، وثغرات، وعثرات يغطيها راهناً رجل إستثنائي بحكمته، وتجربته، هو الرئيس نبيه برّي، بالتنسيق والتعاون مع قائد تاريخي هو السيّد حسن نصر الله، لكن اليوميات المبحرة في أديم القرى والبلدات تعكس واقعاً فائضاً بالحساسيات، والتباينات، والإنقسامات التي تضمر الكثير من العطب واللهب.

يدرك الثنائي جيداً بأن التحالف قوي “من فوق”، لكنه يرسو على قاعدة رخوّة قد تميد بالبنيان في مستقبل غير مضمون الجوانب. ويدرك أيضاً بأن الإعتماد على فائض القوّة قد يحقّق مكاسب، ويملي إرادات، ولكنه لا يحقّق ثوابت ومسلّمات. عليه أن يعيد النظر بقراءته للبلد، لمكوناته، لخصائصه، وميزاته، وتوازناته الدقيقة. لا يمكن القفز  فوق  الحقائق المتأصلة بجينيّات الطوائف والمذاهب التي تخاف من بعضها على بعضها، ولا تشعر بالإطمئنان إلّا بحمى الدستور، والقانون، والدولة، والمؤسسات.

عليه أن يقرّ بأن دعوته إلى الحوار تنطلق من منطلق الدويلة التي نمت في كنف الدولة وتستنزف منها عافيتها، ومنعتها، ومدخرات بقائها واستمرارها، وهذا مسار مرفوض من قبل المكونات الأخرى، ودعوة مشبوهة تحمل في طياتها “حوار الواقع، لتثبيت الأمر الواقع”!

حجة المكونات الرافضة أن بعض من يدعو إلى الحوار، ضالع في سياسة المحاور، ودعوته محبّرة بحبر غير لبناني، ومصاغة بعبارات فيها الكثير من الألغام التي قد تنفجر داخل القاعة، وتفجّر طاولة الحوار، ومن حولها.

وحجتها أن السوابق غير مشجعة، فقد لبّى الدعوة إلى الحوار في عهد الرئيس ميشال سليمان، ووافق على وثيقة “إعلان بعبدا”، والاستراتيجيّة الدفاعيّة، وعند المراجعة بضرورة البدء بتنفيذ ما التزم به في الإعلان، كان جوابه: “سلقوه، واشربوا ميته”!

وحجتها الإعتراض على دعوة البطريرك بشارة الراعي إلى الحياد الإيجابي للبنان، يومها خوّنوه، وبعد فترة احتجزوا مطرانه إلى الأراضي المقدسة، المطران موسى الحاج، على معبر الناقورة، واتهموه بالعمالة.

وحجّتها أن إنتخاب رئيس للجمهوريّة لا يحتاج إلى حوار، بل إلى تطبيق الدستور، وفتح أبواب مجلس النواب، والإستمرار في الجلسات إلى حين انتخاب رئيس.

بالطبع، المكونات المعترضة ليست من مصاف الأبرار والصدّيقين، لها أخطاؤها، وتترتب عليها مسؤولية إيصال البلد إلى ما وصل إليه، لكنّها مع خيار الدولة، لا الدويلة، ومع خيار السلاح الشرعي، لا سلاح “فاغنر” لبناني. والمشكلة أن الداعين، والرافضين للحوار، لا يملكون كلمة السر. إنها في الخارج. وكلٌّ له خارجه، وطالما أن الخارج لم يتفق بعد حول أي لبنان يريد، فإن كلاً من المكونات الداخليّة يبقى منهمكاً في حياكة شرنقته على قياس قدراته، ومصالحه.. وحتفه، في الشرنقة!

 (*) الآراء الواردة في المقالات لا تعبّر بالضرورة عن سياسة موقع “الجريدة