/ منير يونس /
عاد مودعون غاضبون إلى التحرك أمام المصارف باحتجاجات يتخللها عنف وتكسير وشتم من “كعب الدست”. ويتردد أن موجة الغضب قد تتصاعد خلال الصيف مع انسداد أفق الحلول المالية والمصرفية، وانشغال السياسيين بنكايات الإنتخابات الرئاسية وصرف النفوذ والنفوذ المضاد، ولا صوت لديهم يعلو على صوت فرض إرادة من هنا وكسر أخرى من هناك، سعياً لاستمرار منظومة حكم قائمة على التسلط والنفوذ والفساد والبلطجة والسلاح.
في الأثناء، ضاق مودعون ذرعاً وراحوا يتوعّدون بما هو أعظم، حتى ان بعضهم تراوده أفكار ثأر مبين وانتقام مكين. فما الذي يدفع هؤلاء إلى حافة اليأس ويدغدغ لديهم غريزة ارتكاب جريمة ربما؟ في ما يلي بعض محاولات الإجابة:
حوّلوا المودع الى متسوّل إعاشة شهرية زهيدة
أولاً، سينبري من يفتح نقاشاً عن المحتجين ومن يمثلون وما الذي يدفعهم اليوم أو غداً (كما البارحة؟) للتحرك والإحتجاج بعنف أمام عدد من المصارف هنا وهناك؟ ويتكرر سماع اتهامات لهؤلاء أو لمجموعات وجمعيات مودعين أن من يحركهم ويستغل وجعهم يخفي أجندة تصفية حسابات في السياسة. هذا الهراء يسقط أمام شخص واحد فقط تسأله في الطريق: لماذا تحتج؟ فيجيب متحسراً بلوعة مؤلمة عن ضياع جنى عمره وضياع مستقبل أولاده. تلمس اليأس المرعب في صوته ممزوجاً بتهدج مخيف، فلا يستطيع إخفاء رغبته بالإنتقام ممن سرق ماله ودمر حياته، وجعله متسولاً شهرياً أمام البنك للحصول على ما يشبه الإعاشة الشهرية الهزيلة، بسحوبات زهيدة لا تسد أي رمق.
المودعون فئات… ولا عتب على أي واحد منهم
ثانياً، صحيح أن المحتجين بعنف لا يمثلون كل المودعين، لكن لا ننسى أن كثيراً من صغار المودعين خرجوا من المشهد بعدما تبخرت ودائعهم تقريباً منذ أكثر من 3 سنوات بسحوبات بـ”هيركات” قاس جداً وصل الى 85% من ودائعهم. وصحيح أيضاً أن هناك مئات آلاف المودعين المغتربين الغاضبين حتماً لكنهم ليسوا على مقربة من شوارع لبنان للتعبير عن غضبهم. وصحيح أيضاً أن هناك بين 15 الى 20 ألف مودع يشكلون ما يسمى بـ”كبار المودعين” (تضم حساباتهم من مليون أو مليوني دولار وما فوق، وصولاً إلى 50 و100 مليون وأكثر في حساب الواحد منهم)، وهؤلاء موعودون بحل نهائي على طريقة ان “الودائع مقدسة” (طريقة بري في التنويم المغناطيسي)، وأن صندوقاً لأصول الدولة سيعوض عليهم مالهم (طريقة البنكرجية الجشعين المتهربين من تحمل ما اقترفت ايديهم)… عدا ذلك هناك مودعون بين الصغار والمتوسطي الحجم لا يلوون على شيء، ولم يعد لديهم إلا اليأس ليس من استرداد الوديعة وحسب بل من مستقبل لبنان برمته، أو الغضب لدى بعض من يتوعدون بين الفينة والأخرى بالإنتقام ويعدون بتصعيد تحركاتهم خلال هذا الصيف ولاحقاً حتى استرداد حقوقهم!
جمعية المصارف تمعن في “الساركاسم”… والتربح
ثالثاً، في الأثناء، هناك ما يبعث على الدهشة والريبة، إذ تحاول جمعية المصارف التمديد لرئيسها ومجلسها الأسبوع المقبل، وكأن شيئاً لم يكن! زلزال حل بالمودعين، أما المصرفيون فعلى حالهم وفي مواقعهم، لم تسقط شعرة من رؤوسهم، مطمئنون الى ثرواتهم لا سيما في الخارج، يمارسون “الساركاسم” وهم العالمون بأن أهل السلطة لن ينقضوا عليهم، وقضاء تلك السلطة يحميهم من دعاوى المودعين. أما وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة فقد “حلف يميناً معظماً” بألا يفلس أي مصرف في عهده حتى لو أفلس كل المودعين. و”فوق الكاتو كرزة” عمولات منصة صيرفة والعمولات الأخرى المرتفعة جداً استنسابياً وعشوائياً والتي تؤمن للبنوك دولارات سخية في الوقت الضائع وعلى حساب المودعين أيضاً. هذا الواقع المرحلي التكتيكي يطمئن المصرفيين الى حد كبير، بانتظار فرض إرادتهم بمساعدة سياسيين انتهازيين وفاسدين في اجتراح حل مريح لا يتحملون فيه إلا 10 الى 20% من الخسائر التي تسببوا بها هم ومصرف لبنان في سياسات ربوية جشعة أتت على حساب المودعين، وعلى حساب الدولة التي ناءت تحت جبال الديون حتى تعثرت وأعلنت التوقف عن الدفع.
رياض سلامة موعود بتبرئته من القضاء اللبناني
رابعاً، يعيش رياض سلامة الأسابيع الاخيرة له في الحاكمية، على أمل أن ينتقل بهدوء إلى مكان آمن محمي من المنظومة، التي لن تتورع عن استشارته عند اللزوم بما يجب فعله في هذا الملف او ذاك من الملفات المفتوحة على مصاريعها منذ أكثر من 3 سنوات، وستبقى كذلك لسنوات طويلة قادمة. ولدى سلامة تطمينات قضائية محلية بتبرئته على أساس ان العمولات التي حصدتها شركة “فوري” هي من المال الخاص وليس العام، وان “الدولة العميقة” تجمع على أن خسارات مصرف لبنان على الدولة سدادها و”يا دار ما دخلك شر” بالقفز فوق التدقيق الجنائي وفوق أي مساءلة او محاسبة جدية. اما القضاء الأوروبي، بالنسبة لرعاة سلامة وحماته، فـ”ليضرب رأسه في الحيط”! علماً بأن البرلمانيين الأوروبيين يصعدون الآن ليس ضد سلامة فقط بل ضد قضاة وساسة لبنانيين متهمين بالفساد مع تلويح بتحقيقات هنا وعقوبات هناك ضدهم.
الصندوق: أعطونا مصداقية قبل مطالبتنا بالمرونة
خامساً، يعوّل ساسة على أن يداً دولية خفية ستنقذ لبنان، ويتجاهلون كل الإجماع عربياً ودولياً على أن الحل الإصلاحي والإنقاذي المشفوع بمساعدات وقروض ميسرة، لن يمر إلا عبر اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي. لذا راح بعضهم يتحايل برياء مكشوف بتأكيد أنه مع الصندوق، لكن لا يمكنه ترك المودعين لمصيرهم. وهو يخفي حقيقة أن ما يتقدم به من حلول هو بالدرجة الأولى في خدمة 15 الى 20 ألف مودع من كبار المودعين الموعودين بصندوق لأصول الدول وآخر للثروة النفطية يخصص منهما أو من إيراداتهما ما يرد الودائع الكبيرة. يبقى أن صندوق النقد غير قابل بتلك الطروحات، وسمع من زار واشنطن قبل أشهر مثل النائب ابراهيم كنعان والنائب الياس بو صعب كلاماً عن حقيقة الاتفاق مع الصندوق، وكيف أنه لا يتضمن إطفاء للخسائر على طريقة صندوق الأصول أو صندوق الثروة النفطية. لكن مصدراً رفيعاً في الصندوق همس لمن التقاهم من المطالبين بتعديل الاتفاق أن “من يطلب المرونة لا يقدم في المقابل أي مصداقية في تطبيق ولو شرط واحد من الشروط الواردة في الاتفاق المبدئي، ومن يدّعي أن قانون السرية المصرفية تعدل بما يرضي الصندوق فهو واهم”.
لا مفرّ من شطب الودائع غير المشروعة
سادساً، معظم المعنيين والمتعاملين مع ملف المودعين يتجنب البحث جدياً في ما طلبه صندوق النقد ولو بشكل غير مباشر، وينادي به البعض الإصلاحي النادر الوجود في الداخل، والقائم على التدقيق في بنية الودائع لمعرفة المشروع منها وغير المشروع. تحقيق من هذا النوع الجريء والجذري قد يفضي الى شطب نصف الودائع وفقاً لمصدر نقدي رفيع ومطلع، أي شطب أموال فساد وتبييض وإثراء غير مشروع وتهرب ضريبي بعشرات مليارات الدولارات… بما يسهل كثيراً الحل النهائي لإقناع صندوق النقد والمجتمع المحلي والدولي بأن ليس أمام الدولة الراعية والحاضنة لأبنائها إلا التعاطف مع اصحاب الودائع المشروعة لردها لهم وفق برنامج زمني يتفق عليه. مع الأخذ في الإعتبار أن أي تدقيق في الودائع بين المشروعة وغير المشروعة سيفضح “رهطاً معتبراً” من أشخاص المنظومة وأزلامها والمستفيدين منها بكل الطرق الفاسدة التي يمكن تخيلها. كما سيفضح مصارف ومصرفيين تواطؤوا وبيّضوا الاموال تحت ستار السرية المصرفية التي جرت وبالاً على لبنان ينعدم معه أي مردود إيجابي مزعوم منذ اقرار قانون السرية (المشؤومة) في 1956.
أيها المودع: قضيتك مع دولتك وليس مع صندوق النقد
سابعاً، يصب مودعون جام غضبهم على صندوق النقد الدولي باتهامه انه هو من يريد شطب الودائع. يتناسى هؤلاء ان لبنان طلب مساعدة الصندوق فقدم الأخير ما لديه من مبادئ وشروط للاتفاق. ويمكن للبنان رفض تلك الشروط و”كل واحد يقلع شوكه بيديه”. ولن يكون الصندوق حزيناً اذا استطاع لبنان اجتراح المعجزات المالية لرد 92 مليار دولار من الودائع المحجوزة لأصحابها.
لا يمكن للبنان فرض شروط على الصندوق. أما العكس فصحيح، لأن المقرض يريد ضمانة لاسترجاع امواله، كما يبحث عن توفير ضمانة لمقرضين آخرين عرباً ودوليين سيمولون لبنان وفق البرنامج الإصلاحي، كما ضمان جدولة وهيكلة (مع هيركات) حقوق حملة سندات اليوروبوندز التي توقف لبنان عن سداد اقساطها وفوائدها للدائنين. الكرة ليست في ملعب صندوق النقد، بل في ملعب لبنان وساسته. فإما يقبل اللبنانيون استمرار المنظومة في التحايل والكذب وهي تطبق أسوأ خطة مستمرة فصولاً مريرة ظالمة منذ 2020 (ليلرة وهيركات بإدارة رياض سلامة)، وإما يقبلون بشروط الصندوق ويدفعون المنظومة لتنفيذ إصلاحات هي في مصلحة لبنان واللبنانيين أولاً وأخيراً، وليس للصندوق فيها مصلحة خاصة سوى ضمان نجاح البرنامج اللإنقاذي ورد القروض.
تدقيق جنائي: هل الدولة سرقت أموال المودعين؟
ثامناً، لدى بعض المودعين سردية ان الدولة سرقت اموالهم، واهدرتها لا سيما بالانفاق على قطاع الكهرباء. الفيصل هو التدقيق الجنائي في مصرف لبنان وكهرباء لبنان وكل المؤسسات والادارات والصناديق العامة وفق قانون مقر لذلك. فلماذا لا يضغط المودعون (الناخبون) على ساستهم لإجراء التدقيق الجنائي المطلوب لتبيان حقيقة “ما لله لله، وما لقيصر لقيصر”؟ لا يكفي القول إن السياسيين يكذبون، فهؤلاء منتخبون وعلى ناخبيهم طلب الحقيقة منهم، ولا شيء غير الحقيقة لنعرف ما اذا كانت الدولة سرقت اموال المودعين أم أن رياض سلامة وحماته ورعاته والمصرفيين غشوا المودعين وعموم المواطنين وقادوا البلد نحو الهاوية؟ فهل يجوز ترك الطغمة الأوليغارشية الكليبتوقراطية تخرج من جريمة العصر “متل الشعرة من العجين”؟
المصارف ليست قدس الأقداس ولا هي أرز الرب
تاسعاً: ينتاب مودعين خوف غريب من ان الهجوم على البنوك سيفلسها، وان المطلوب الحفاظ على القطاع المصرفي اللبناني كما لو انه قدس الاقداس مثل أرز الرب! هل سأل هؤلاء انفسهم حقاً ما اذا كانت البنوك اليوم مفلسة أم غير مفلسة وفقاً للمعايير الدولية ذلت الصلة؟ اذا كانوا لا يعلمون فليسألوا أهل العلم ويفتشوا عن تقارير دولية صدرت ونشرت من كل حدب وصوب ولا تنفك تؤكد يومياً ان مصارف لبنان باتت زومبي (حية ميتة). فهل المطلوب الابقاء عليها كذلك؟ والى متى؟ وما الجدوى؟ هل طلب الحفاظ على القطاع المصرفي هو لرد الودائع لأصحابها؟ وكيف؟ واذا أتى الجواب لتوكيد ان اصول الدولة هي المعنية برد الودائع، فما الحاجة لكل هذه البنوك اذا؟ ولماذا تبقى جالسة على الطاولة اذا كانت الدولة ستتولى رد الودائع وتحمل الخسائر؟ وهل تمر هذه الكارثة الأليمة النادرة الفريدة من نوعها في العالم من دون مساءلة ومحاسبة ويكافأ فيها من سبّبها وفاقم تداعياتها سواء كان مصرفياً ام سياسياً؟ وماذا عن ثروات المصرفيين والسياسيين الفاسدين الذين اثروا مما اصطلح على تسميته دولياً “مخطط بونزي احتيالي”؟
أصول الدولة للجميع: التضحية مقابل المحاسبة
عاشراً، إن اصول الدولة للجميع، للأجيال الحالية والمستقبلية. هذا بديهي لكن يبدو أن البديهي لم يعد كذلك في لبنان في ظل غبار يثار من كل جانب، وسرديات تضليل مبرمج تطفو على شاشات التلفزة وورق الجرائد، وعلى أفواه وشفاه كل من يريد طمطمة الفضيحة المالية التاريخية او رميها في حضن خصمه السياسي والطائفي. ربما يقبل اللبنانيون التضامن في ما بينهم لرد الحقوق الى اصحابها، لكن ليس قبل معاقبة من تسبب بسرقة القرن، وإلا فنحن نؤسس لكارثة أكبر لا محالة ستأتي قريباً… وقريباً جداً لتهدد الكيان برمته!