| جورج علم |
ينبثق بصيص من أمل في كل مرّة يزور فيها الأمير يزيد بن فرحان بيروت. هناك تصميم سعودي على وضع إتفاق الطائف موضع التنفيذ، بكامل مندرجاته، ومن دون إستثناء.
ما يجري من زيارات، وجولات، مجرّد مقدمات لإكتشاف الخبايا، وفحص النوايا، تمهيداً للإنخراط في الورشة الإنقاذية.
هناك خريطة طريق أعدتها المملكة العربيّة السعوديّة بإتقان، وحكمة، وتبصّر، مع كلّ من الولايات المتحدة وفرنسا، لتنفيذ الإتفاق، بالتشاور مع مصر وقطر كعضوين في “الخماسيّة”.
وما تمّ تنفيذه من الهوامش حتى الآن، يندرج وفق الآتي:
إنهاء مرحلة الفراغ، وإنتخاب قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهوريّة، والموافقة على ما جاء في خطاب القسم. إختيار نواف سلام رئيساً للحكومة، والترحيب بالبيان الوزاري. دعم خطة الحكومة للنهوض. مباركة ملء الشواغر في المؤسسات العسكريّة، والأمنيّة، وحاكميّة مصرف لبنان…
وتلحظ خريطة الطريق ما يمكن وصفه بالأساسات، وتلحظ ـ على الأقل ـ محطّات أربع على جانب من الأهميّة:
الأولى: أن تلعب الرياض دور الراعي الفعلي للطائف، من خلال الحراك الدبلوماسي الرصين بإتجاه الولايات المتحدة، وفرنسا، ودول الإتحاد الأوروبي، ومجلس الأمن، والدول الخمس الكبرى الدائمة العضويّة، والعديد من عواصم الدول المؤثّرة. والهدف من كلّ هذا تأمين مظلّة إقليميّة ـ دوليّة واقية، ومساندة للدور الذي تضطلع به بهدف وضع بنود الطائف موضع التنفيذ، بمنأى عن أي إعصار مدمّر، أو عاصفة هوجاء.
الثانيّة: تحرير “الطائف” من الهيمنات الخارجيّة، والوصايات الإقليميّة، وترسيم حدود العلاقة اللبنانيّة ـ السوريّة بشفافيّة، ونديّة، وإحترام متبادل، مع الحرص على المصالح المشتركة، والعلاقات الأخويّة.
ولم يأتِ اللقاء الذي حضنته جدّة مؤخراً، بين وزيري الدفاع اللبناني والسوري، من فراغ. لم يكن وليد صدفة أو مزاجيّة، بقدر ما كان ثمرة تخطيط وإعداد، ليشكّل الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل. خطوة ستستتبع بخطوات أخرى، ولقاءات وإجتماعات مكثّفة بين البلدين لوضع كل النقاط التي وردت في البيان الختامي الذي صدر عقب الإجتماع، موضع التنفيذ.
الثالثة: فك الإرتباط ما بين الحالة اللبنانيّة، والمحاور الإقليميّة الضاغطة.
لا يمكن للطائف أن يُبعث حيّاً في ظلّ هيمنة إقليميّة على عواصم عربيّة أربع، وبيروت ضمناً، لتحقيق “أحلام إمبرطوريّة”، أو مصالح توسعيّة، في مواجهة العولمة الزاحفة من الغرب الأميركي ـ الأوروبي، بإتجاه المنطقة.
إن مسألة السلاح المتفلّت، ومحاولة حصره بالمؤسسات الرسميّة الشرعيّة، أبعد بكثير من كل ما يقال ويشاع. الحصريّة هنا، تنعى بكل بساطة “حصر الإرث” اللبناني، بحيث لا يبقى هناك من شراكة، ولا من مشاركة في صنع القرار الوطني، ولا من حصريّة لقرار الحرب والسلم بمعزل عن الدولة، ومن فوق مناكبها، ومن دون الأخذ برأيها، أو التشاور والتنسيق معها.
كان المطلوب، ولا يزال، تعويم المركب اللبناني من لجج التحامل، والتحايل، لإعادة الروح إلى إتفاق الطائف بعد وصايات ثلاث جائحة، بدءاً بالوصاية السوريّة، إلى الوصاية الإيرانية، ومع بدايات الوصاية الإسرائيليّة. والأخيرة تبقى الأخطر لأنها تجتاح التاريخ والجغرافيا، والبشر والحجر، ولا تقيم وزناً للقوانين، والأعراف الدوليّة، ولا للمواثيق، والحرمات، والمحرّمات.
الرابعة: المسألة الداخليّة اللبنانيّة المعقّدة.
لدى السعوديّة قناعة بأن أمراء الطوائف، ضدّ الطائف كمسار دستوري ـ إصلاحي يؤدي إلى قيام دولة الكفاءات على حساب دويلات الفئويات والمحاصصات. أو يريدون الطائف على قياس مصالحهم الضيّقة، ومربعاتهم التفتيتيّة.. لقد جاء بهم الطائف، ولملمهم من جبهات الحرب الأهليّة، والزواريب المذهبيّة، ووضعهم في صلب المؤسسات ليبنوا الدولة القويّة القادرة والعادلة، والمنفتحة، وإذ بهم يمتصون ما تبقى من عافية في عروقها لصالح دويلاتهم، محتكمين إلى شريعة الفساد بديلاً عن شريعة القانون والدستور، والنزاهة، والشفافية.
إن ترميم الداخل لا يقتصر على فكّ الإرتباط مع “وحدة الساحات”، ولا على التحرّر من عقدة الولاءات الخارجيّة، ولا على العودة من الخيارات الإنتحاريّة، وإعادة بناء ما هدّمته وتهدّمه المغامرات الإسرائيليّة العدوانيّة، بل تبدأ من ورشة كبيرة، واسعة، ومكلفة، تأخذ بعين الإعتبار محطّات مفصليّة لا بدّ منها، للتيقن بأن ما يكتب للبنان إنما هو عمر جديد للإستمرار برسالة التنوع، والإنصهار الثقافي.
أولى هذه المحطات إدخال كميّة الأوكسجين الضروريّة للبيئات السياسيّة المقفلة، المنطوية على نفسها في جحور الماضي. لا بدّ من الخروج من الشرنقة. لا بدّ من التغييّر. لا بدّ من التحرّر من نير الطبقة الفاسدة عن طريق الإنتخابات البلديّة، والنيابيّة.
التغيير آت، ومن جاء بجوزاف عون إلى رئاسة الجمهوريّة، ونواف سلام إلى رئاسة الحكومة، قادر أن يغيّر دفّة المركب اللبناني لكي يتأقلم شراعه مع رياح التغيير الناشطة بإتجاه الشاطىء ألآمن.
الثانيّة: إستكمال مرحلة التطبيع ما بين الدويلة والدولة. زمن الدويلة إنتهى، أينعت سنابله، وغادرت الخيرات بيدره لتصبّ في إهراءات الدولة.
ليس في حسابات الطائف دويلات، وميليشيات، ولا إقطاعيات، أو مربعات وفئويات، بل مؤسسات جامعة، ضامنة، فاعلة، وعادلة ضمن هرميّة الدولة الواحدة الموحّدة.
الثالثة: محاربة الفساد عن طريق البدء بالإصلاحات. إصلاحات في صروح العدالة والقضاء. إصلاحات في “مغارة علي بابا” المالية و”الأربعين حرامي”. إصلاحات في القطاعات الإقتصاديّة، والتربويّة، والإستشفائيّة. إصلاحات على مختلف المستويات، وفق شروط صندوق النقد الدولي، والمواصفات التي تنادي بها الدول المانحة، سواء كانت شقيقة أو صديقة.
الرابعة: عودة لبنان إلى الحضن العربي بوسامة التنوّع، وإشراقة الإبداع. وعودة العربي إلى الحضن اللبناني، حديقة ألحان وتماوج ألوان…