/ وفيق قانصوه /
المؤسّسة الأولى المعنية بإنفاذ القانون وحفظه تبدو أكثر المؤسسات التي تحلّق فوق القوانين وتخرقها. منذ تولّي العماد جوزف عون منصبه في قيادة الجيش، عام 2017، يتصرف الرجل على قاعدة أن لا صوت يعلو فوق صوت “القائد”. خرق فاقع للقوانين والأنظمة، وتجاهل كلي لأجهزة الرقابة، واطمئنان إلى غياب المحاسبة… كل ذلك استناداً إلى ظهير وراء البحار يبسط شبكة حمايته فوق رأس المؤسسة العسكرية الطامح ليكون على رأس البلاد. آخر إبداعات القائد “صفقة الرنجر” لشراء أحذية للعسكريين، لم تسلك المسارات القانونية المفترضة، ولم يعلم بها مجلس الوزراء ولا وزير الدفاع، وتتضمّن أرقاماً فلكية تثير كثيراً من التساؤلات والشبهات
علمت “الأخبار” أن خلافاً يدور في اليرزة بعد رفض لجنة استلام عيّنتها قيادة الجيش التوقيع على تسلّم شحنات من أحذية “رنجر” الصحراوية بسبب شبهات كثيرة تشوب اتفاقاً وقّعته القيادة مع شركة Rocks trading FZ-LLC لاستيراد هذه الأحذية، ولعدم وجود دفتر شروط لمطابقته مع التجهيزات المطلوبة.
الاتفاق الذي حصلت “الأخبار” على نسخة منه، وقّعه عن الفريق الأول (قيادة الجيش) نائب رئيس الأركان للتجهيز العميد الركن الطيار زياد هيكل وعن الفريق الثاني (Rocks trading) روك شلالا، بتاريخ 9 كانون الثاني 2023، تحت عنوان “اتفاقية بالتراضي رقم 66”. وهو يتضمن تعهّد “الفريق الثاني” بتأمين 100 ألف زوج من حذاء “رنجر” الصحراوي “مصنّعة في الصين” بقيمة ثلاثة ملايين و550 ألف دولار، بسعر إفرادي يبلغ 35,5 دولاراً للزوج الواحد. على أن يتم التسليم على 6 دفعات (10,000 زوج في 30 نيسان 2023، 10,000 في 30 أيار، 20,000 في 30 حزيران، 20,000 في 30 تموز، 20,000 في 30 آب، 20,000 في 30 أيلول).
ويشمل السعر التأمين والشحن إلى مرفأ بيروت. ويتم دفع ثمن الأحذية كالآتي: 25% دفعة أولى عند توقيع الاتفاقية (887 ألف دولار)، 25% دفعة ثانية بعد شهر من الدفعة الأولى (887 ألف دولار)، دفعة ثالثة بنسبة 15% (532 ألف دولار) عند تسلّم الشحنة الأولى، دفعة رابعة بنسبة 15% (532 ألف دولار) بعد تسلّم الشحنة الثانية من البضاعة، دفعة خامسة بنسبة 10% (355 ألف دولار) بعد تسلّم الشحنة الثالثة، دفعة سادسة بنسبة 10% (355 ألف دولار) بعد تسلّم الشحنات الباقية.
والواقع أن الاتفاقية تتضمّن ثغرات كثيرة شكلاً ومضموناً، ومخالفات للقوانين، يمكن إيرادها كالآتي:
في الشكل
1 – يتضمّن العقد كمية ضخمة من الأحذية وهي، بحسب مصادر عسكرية مطّلعة، تكفي حاجة الجيش لأكثر من 5 إلى 6 سنوات، إذ يُعطى العسكري في العادة زوج “رنجر” كل حوالى ثلاث إلى أربع سنوات.
2- بعيداً عن إمكان التعرّض للتلف أثناء التخزين الطويل، فإن مثل هذا التجهيز لسنوات عدة يبدو مستغرباً، لا بل “ترفاً” وفق تعبير مصادر عسكرية، في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها البلد، وتردّي الأوضاع المعيشية للعسكريين.
3- الصفقة مموّلة مما يسمّى “الأموال الخاصة” للجيش. وتشير المصادر إلى أنه، في العادة، يتم “تحقيق” (شراء) مثل هذه المعدات، كالأحذية، من الأموال العامة. أما الأموال الخاصة التي تأتي من أرباح النوادي العسكرية و”أرباح التغذية” (الفارق بين الاعتماد المرصود للتغذية والنفقات الفعلية) والهبات، فتُستعمل لسد العجز في نفقات الطبابة والدواء وما يُدرج تحت بند “النفقات الطارئة” كتوفير علاج لعسكريين في الخارج وخلافه، وليس لصفقة “تحقيق” أحذية. وفي هذا تعسّف من القيادة في استخدام هذه الأموال في غير الوجهات التي يجب أن تُستخدم فيها، إلى ما هو غير طارئ وغير سري. ومما يثير الارتياب أن قيادة الجيش قد تطلب لاحقاً، بعد تشكيل حكومة جديدة، إقرار الصفقة على سبيل التسوية واستعادة المبلغ المدفوع، بحجة أنها أُقرّت في ظل حكومة تصريف أعمال وشلل المؤسسات، ما يحوّل تمويلها من الأموال الخاصة إلى الأموال العامة، رغم الثغرات القانونية التي تشوبها، ورغم عدم سلوكها المسار القانوني المعتاد في صفقات مماثلة.
4- ليس مفهوماً كيف تقرّر مؤسسة وطنية استيراد تجهيزات من دون الأخذ في الاعتبار تشجيع الصناعة المحلية، إذ إن هناك تعاميم ومراسيم تلزم الإدارات العامة بإعطاء الأفضلية للصناعة المحلية مع هامش فارق أسعار بحدود 10% إلى 15%. كما أن المادة 20 من قانون الشراء العام (التي لم تخضع لها الاتفاقية على أيّ حال) تنص على “عدم استبعاد المنتجات والخدمات والخبرات الوطنيّة، في حال وجودها بجودة ونوعية تفيان بالمطلوب”، وعلى “إعطاء العروض المتضمنة سلعاً أو خدمات ذات منشأ وطني أفضلية بنسبة 10% عن العروض المقدمة لسلع أو خدمات أجنبية”. علماً أن هناك مصانع أحذية كثيرة في لبنان سبق للجيش وغيره من المؤسسات العسكرية أن تعاملوا معها. (في آب 2019، استجابت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لطلب وزير الصناعة وائل أبو فاعور بإعادة إجراء مناقصة شراء أحذية عسكرية لمصلحة قوى الأمن الداخلي استُبعد منها صناعيون لبنانيون، تشجيعاً للصناعة الوطنية).
5- يبدو سعر 35,5 دولاراً لزوج الـ”رنجر” مبالغاً فيه إلى حد كبير. بحسب أكثر من مصنّع أحذية تحدثت إليهم “الأخبار”، فإن “سقف سعر الزوج، وفق أفضل المواصفات، لا يتعدى الـ 15 دولاراً في السوق المحلي”. بالتواصل مع شركة Huzhou Hainer الصينية المختصة، تلقّت “الأخبار” عرض أسعار لشراء 80 ألف زوج رنجر صحراوي تتوافق مع المواصفات التي يضعها الجيش بسعر 14,10 دولاراً للزوج وبكلفة إجمالية لا تتعدى مليوناً و128 ألف دولار، تتضمن نفقات الشحن من شانغهاي إلى بيروت، أي بنحو ثلث الاتفاقية التي بين أيدينا.
في القانون
اللافت أن المادة السادسة من “اتفاقية التراضي” تنصّ، تحت عنوان “المحافظة على السرية”، على أنه “يُمنع على الفريق الثاني… نشر هذه الاتفاقية بأي شكل من الأشكال تحت طائلة فسخ العقد والملاحقة القضائية”، علماً أن ما نحن في صدده يتعلق بأحذية، لا بأسلحة أو معدات حساسة تمس بالأمن الوطني.
من حيث المبدأ، يفرض قانون الشراء العام أن تتم كل عمليات التعاقد بالاستناد إلى مناقصة شفافة ومعلنة، مع هامش السماح للتعاقد بالتراضي، وفقاً لشروط محددة ذكرتها الفقرة 4 من المادة 46 ونصّها: “عند شراء لوازم أو خدمات أو عند تنفيذ أشغال تستوجب المحافظة على طابعها السرّي من أجل مقتضيات الأمن أو الدفاع الوطني، وذلك وفقاً لقرار يُتّخذ في مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح الوزير المختصّ الذي يحدّد الصفة السّرية للشراء، وأسباب التعاقد الرضائي”.
بمعنى آخر، يحق للجيش إجراء اتفاق رضائي في حال كان الأمر يتعلّق بشراء أسلحة من نوع خاص، أو معدات ذات طابع سري كالحواسيب المشفّرة وأجهزة الاتصالات والمراقبة والتنصت، أو ذات طابع استراتيجي كالآليات المصفّحة وصفقات الأسلحة. إلا أن أياً من هذا لا ينطبق على هذه الاتفاقية.
رغم ذلك، لم تنشر قيادة الجيش الاتفاقية الرضائية على موقع هيئة الشراء العام، مرتكبةً مخالفتين. الأولى، عدم توفّر موجبات السرية، إلا إذا كان لـ”رنجرات” العسكر ومقاسات أرجلهم طابع سري. والثانية، أن ما من قرار صدر عن مجلس الوزراء بشأن العقد، كما تنصّ المادة (46)، وما من إشارة إلى علم وزير الدفاع بالصفقة لا من قريب ولا من بعيد.
إلى ذلك، وحتى في حال انطباق السرية على الاتفاقية، يتوجب قانوناً إحالتها إلى ديوان المحاسبة للحصول على موافقة مسبقة طالما أنها تتعلق بدفع أموال عامة، وهو ما لم يحصل بحجة أن التمويل من “الأموال الخاصة”.
في الأعمال الإدارية
في العادة، عندما يحتاج الجيش إلى تجهيزات كالملابس والأحذية وخلافها، ترفع القيادة ما يسمّى بـ”اللغة” العسكرية “استدراك حاجة” (طلب) بالتجهيزات المطلوبة إلى المديرية العامة للإدارة التي يفترض أن تعدّ دفتر شروط إدارياً وتقنياً يُرفع إلى وزير الدفاع لتصديقه، على أن يجري تأمين النفقة من ضمن الموازنة، ثم إجراء مناقصة عمومية، على أن يوقّع الوزير المعني على العقد الأساسي ولاحقاً على محضر الاستلام قبل الدفع. إلا أن أياً من هذه الشروط لا ينطبق على هذه الاتفاقية، إذ تم استخدام أموال خاصة لتمويلها، ولم تأت على ذكر الوزير في أي مرحلة من المراحل.
في ثغرات الاتفاقية
1- لم تُفرض غرامة تأخير واضحة في حال لم تلتزم الشركة المستوردة بالمواعيد، بل بقيت مبهمة بناءً على مرسوم صادر عام 1968 ينص على غرامات بالليرة اللبنانية، فيما العقد بالدولار الأميركي.
2- خلا العقد من كفالة حسن تنفيذ ومن فترة كفالة نوعية (تراوح بين ستة أشهر وسنة بعد التسليم).
3- لم تُحدد ماركة البضاعة المنويّ استيرادها ولا معمل التصنيع كما ينبغي.
4 – لم يجر تحديد شروط فحص البضاعة تمهيداً للاستلام المؤقت والنهائي، كما لم تحدد آلية رفض البضاعة كما هي العادة في مثل هذه العقود.
5- تم إعطاء سلفة مالية من دون كتاب ضمان لمدة تسعة أشهر من دون فائدة، ولم يتم حجز أموال حتى نهاية فترة الضمان.
6- تمّت الموافقة على دفع 50% من قيمة الصفقة قبل محضر استلام أول دفعة توازي 10% فقط من الكميات المطلوبة.
7- لم يحدد المورد عنوانه لإرسال التبليغات، ولا رقمه المالي، و لا إفادة شركته بتسجيلها في الـTVA.
8- لم تأت الاتفاقية على ذكر ما إذا كان السعر يتضمن الـ TVA، ولم ترد الاشارة إلى هذه الضريبة من قريب أو بعيد.
9- تنص الفقرة الثالثة من المادة الثانية من الاتفاقية على ان المستوعبات تُحمل من مرفأ بيروت الى اللواء اللوجستي في كفرشيما حيث يتم نزع الرصاص أو الاقفال عنها، وهو أمر مستغرب، ويضفي مزيداً من الغموض. إذ أن الجيش معفى من الرسوم الجمركية والضرائب، إلا أنه ليس معفى من الخضوع للرقابة وفتح المستوعبات في المرفأ طالما ان ما من شيء يمس بالأمن القومي داخلها.
الشركة الغامضة
أكثر ما يلفت في الاتفاق الرضائي هو “الفريق الثاني”، أي شركة Rocks trading FZ-LLC “ممثّلة بالسيد روك شلالا” من دون تحديد اي صفة له في الشركة ولا تفويض له من قبلها ولا مهمة موكلة اليه ولا حتى عنوانه. كما لم يذكر الاتفاق جنسية الشركة أو عنوانها وما إذا كانت تتوافر لديها الشروط الإدارية العامة والمؤهّلات والكفاءة والموارد المالية والمعدات والخبرة التي تتناسب مع موضوع الشراء.
البحث عن الشركة المذكورة يشبه البحث عن إبرة في كومة قش، إذ لا موقع إلكترونياً أو “بورتفوليو” عنها على الإنترنت. البحث الإلكتروني أظهر على صفحة دليل الشركات (yelleb) شركة تحمل اسم Rock Trading، عنوانها في تل الزعتر، وتعمل في تجارة الأجهزة الإلكترونية. ولدى محاولة الاتصال برقم الهاتف المرفق تبيّن أنه خارج الخدمة.
بالبحث عن Rocks trading FZ-LLC، يتبين وجود شركة تحمل الاسم نفسه إمارة رأس الخيمة، مدرجة في صفحة تعرض الشركات العاملة في الإمارات (Fz: free zone أي المنطقة الحرة). إلا أنه لا موقع إلكترونياً أو بورتفوليو للشركة يظهر مجال عملها أيضاً.
أما البحث عن روك شلالا على غوغل ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي، فيظهر وجود شخص واحد يحمل هذا الاسم، ظهر قبل أربع سنوات على قناة “ال بي سي” يتحدث عن مواصفات جرار غاز جديدة طرحتها شركة roxgas في السوق اللبناني، وليس مؤكداً ما إذا كان هو نفسه ممثل الشركة التي تورّد الأحذية إلى الجيش.