الحجاب بوركيني مايو

صراع الـ “بيكيني” والـ”بوركيني”.. “فدرلة” الشواطئ؟

/ فاطمة جمعة /

تجذّر الفكر الطائفي في بنية المجتمع اللبناني، وتمدد بين مؤسسات رسمية وقطاعات اقتصادية ومختلف شرائح الشعب. هذه الطائفية التي يدعو اتفاق الطائف لإلغائها، ويستنكرها اللبنانيون منذ قرن من الزمن، هم أنفسهم من يمارسونها في أماكن العمل، والقرارات الشخصية، والتنشئة التربوية والسياحية، والسلوك الاجتماعي، وغيرها…

معلوم أن لبنان قائم على التنوع الديني، وكذلك الفرز الديموغرافي بنسبة عالية، لناحية تمركز السكان بحسب الطوائف، وطبيعة النشاط السياحي والتجاري للثقافة السائدة، وتوجهات المدارس في البيئة الاجتماعية.

تتوزع المنتجعات والمسابح في لبنان على مختلف المناطق اللبنانية، مع مراعاة التزامات وسمات كل منطقة. مثلاً، تحظر مسابح مناطق جبل لبنان وشماله، دخول المحجبات أو ارتداء الـ”بوركيني”، فيما تسمح مسابح لبنان الجنوبي وبقاعه باستقبال المحجبات، كما أن بعضاً منها يمنع ارتداء الـ”بكيني”.

هذه التنوع والاختلاف، يشيران بشكل غير مباشر إلى حالة “الفدرلة” السياحية التي تتسلّل من حجج الممارسات بحيث تصبح أعرافاً، لكنها أقوى من القانون، مع أن المجتمع اللبناني “قونن” منع الـ”بوركيني” في المسابح، على أنه أمر اعتيادي في إطار سياسة المؤسسة وقوانين أصحابها.

“همروجة المايوه”

قبل أيام، ضج الشارع اللبناني بحادثة الاعتداء على سيدة في شاطئ صيدا، من قبل شيخ “ينهى عن المنكر”، لارتدائها “المايوه” في مكان عام، ورجمها بالحجارة بعد مشادة كلامية بينهما، الأمر الذي أدى لموجة غضب واستنكار بين فئة من اللبنانيين على مواقع التواصل الاجتماعي.

انهمرت اتصالات الصحافيين ووسائل الإعلام لمقابلة الضحية وتخصيص الهواء لها، لما للموضوع من “أبعاد أمنية خطيرة”، إذ أن “انتهاك الحريات، قد يؤدي إلى تداعيات عنف وانتقام ومن ثم الفلتان…”. ثم تستثمر، جهات عدة، كالعادة، في أي قضية رأي عام وتحورها لصالح استراتيجيتها السياسية.

بعض محطات التلفزيون، على سبيل المثال، أسرفت في تغطية ما جرى في صيدا بالتزامن مع المناورة العسكرية لـ”حزب الله”، وكأنها تنتظر حادثة لتحول دون متابعتها. كما أن أغلب الجمعيات النسوية وهيئات المجتمع المدني، “قامت بالواجب وأكثر” في مناهضة قمع الحريات ومناصرة ارتداء “المايوه” في جميع مناطق لبنان، من شماله لجنوبه، على حساب قضايا أخرى تتعمد التعتيم وصرف النظر عنها.

استفاضت تلك الجمعيات، التي بات عددها لا يُحصى، خلال فورة الـ NGOs، في نشر بيانات الإدانة ومنشورات الغضب، وفيديوهات التوعية حول الحق بـ”المايوه” في كل لبنان، وأيضاً التذكير يومياً بالحادثة عبر الـ”ستوري” والـ”بوستات” و”التغريدات”، والدعوة إلى مؤتمر صحافي ووقفة تضامنية للمطالبة بالعدالة وضمان الحريات.

طبعاً، من حق الناس السباحة بأي زيّ كان على أي شاطئ، لكن الإشكالية تكمن في المبالغة في قضية معينة لأهداف معروفة المنشأ، على حساب التعتيم على قضايا أخرى. والالتباس ينتهي فقط حينما يتم تغطية جميع القضايا بنفس القدر والاهتمام.

تعتيم الحجاب

يظهر جلياً غياب موضوع الحجاب عن أجندة الجمعيات النسوية وهيئات المجتمع المدني، حيث لم يحصل في عدة حوادث سابقة، تحرك غاضب على غرار حادثة صيدا. بخلت صفحات الجمعيات في تغطية طرد المحجبة من مول ABC Verdun، بل اعترضت على الممرضات المحجبات في مطار بيروت خلال فترة كورونا.

هذه التجارب تعيدنا بالذاكرة للعام 2020، حين رفض مسبح “سبورتينغ كلوب” دخول سيدة محجبة لمشاهد حفيدتها وهي تتعلم تمارين السباحة، أي لن تشاركها السباحة، مما أثار حفيظة البيئة المحيطة بالسيدة، التي رفعت الصوت عالياً، بوجه تجاهل جمعيات المجتمع المدني للحادثة.

لم تحصل حملة احتجاج من قبل “النسويين” و”النسويات” والمنادين بالحريات، لوقف منع المحجبات، بأي زي أو أقله زي السباحة الشرعي “البوركيني”، من دخول كافة المنتجعات والمسابح في لبنان؟

لماذا الترويج لـ”المايوه” في مقابل التغاضي عن الـ”بوركيني”؟

سؤال يطرحه العديد من النساء اللواتي يسقطن ضحايا المجتمع “المتطرّف” لقضاياه “المزاجية”.

ما يزيد الأمر سخريةً واشمئزازاً، هو منع المنتجعات سباحة المحجبات بالـ”بوركيني” ليس إلا، بل حتى منعهم من دخول حرم المسبح ككل، ووصل بهم الأمر لمنع ارتياد الكافتيريا حتى!

هل تعلم هذه المنتجعات أن المحجبة في الولايات المتحدة تسبح بالعباءة في الشواطئ العامة؟ وفي بريطانيا تسبح بالـ”بوركيني” وتقود الطائرات؟ وفي بلجيكا تسبح إلى جانب الـ”مايوهات”؟

غير وارد بالقانون

قانونياً، لا توجد مادة تنص على مواصفات لزي السباحة للنساء، ولا تحدد نوع اللباس المتوجب، بل تتيح لجميع السباحات ارتداء أي قطعة قماش، سواء “المايوه” أو “البوركيني”. غير أن اللغة التي يفهمها القانون، هي أن تعدّي غالبية المنتجعات والمسابح الساحلية على الأملاك البحرية التابعة للدولة، وهي بذلك متاحة لكافة فئات الشعب، وليست ملكاً حصرياً لإدارة المؤسسة لتفرض قوانينها على الزبائن.

قضية لباس السباحة تفتح الباب على قضية ارتياد الشواطئ العامة التي تحتكرها المنتجعات، وتنتهك بها القانون، حيث أنه يكرّس السباحة في الشاطئ ويحصر حدود مساحة المنتجع ضمن اليابسة فقط، فبأي حق يتدخل في لباس المحجبة، إن كانت تمارس حقها الطبيعي المكفول بالقانون؟

في أحد أفخم وأكبر المنتجعات السياحية في مدينة مرمريس التركية، يستطيع أي فرد السباحة في البحر والدخول إلى الشاطئ المقابل لهذا المنتجع من دون دفع أي رسم، بل إن ولو اعترضه المنتجع يُحاسَب قانونياً. الأمر نفسه في لبنان، حيث يلتزم عدد من المسابح بعدم التعرض للسباحين المارين في البحر قرب المسبح، إنفاذاً للقانون اللبناني، بينما تمنع الكثير المسابح اقترابهم من “بلوكات” الصخر، وكأنها “مياهها الإقليمية”.

في المحصلة، إن كانت المطالبة بفرض “المايوه” في كل مسابح وشواطئ لبنان، فالأمر يوجب المطالبة بالسماح للحجاب على حد سواء. وخلافاً لذلك، يبقى المجتمع اللبناني على معادلة “ناس لكل شاطئ” التي يعيشها حالياً، بدلاً من معادلة “شاطئ لكل الناس”.. فهل تُعلَن رسمياً “فدرلة الشواطئ”؟