الموكب الرئاسي إلى بعبدا .. يمرّ حكماً بالمبادرة العربيّة ـ الدوليّة

/ جورج علم /

بإمكان الممسكين بزمام الأمور إنتاج ألف مشكل في اليوم، دون القدرة ـ أو عدم الرغبة ـ على إنتاج حلّ واحد.

حقيقة يعرفها أشقاء لبنان، وأصدقاؤه، ويجاهر بها السفراء المعتمدون في مجالسهم. وقد كشفت التجارب طبيعة المعدن الوطني المتآكل بالهريان، فلا الإصلاحات تحققت، ولا الفساد جفّ ضرعه، ولا المبادرات سلكت طريقها نحو الإلتزام، والإحترام، وتحوّلت الحياة الديمقراطيّة إلى فوضى عارمة، والوطن إلى حارات “كل من إيدو إلو”، والاستحقاق الرئاسي إلى خطّ تماس متفجّر بين السيادييّن، والممانعين.

حاول البعض القفز فوق الحقائق، مختصراً الأزمة بالأسماء “سمّوا، ونسميّ، ونخوض معركة ديمقراطيّة، ومن يفز، نقول له مبروك!”.

لا يصحّ التذاكي أمام المحطات الوطنيّة الكبرى، عندما يكون المصير والمستقبل متأرجحاً على كفّ عفريت. جوهر الأزمة خلاف حول الخيارات، لا حول الأسماء. وخلاف حول أي لبنان. وخلاف حول أي دور. هل لبنان المحايد، المنفتح، المتنوّع، المنتمي إلى بيئته، وتاريخه، وجغرافيته.. أم لبنان الملحق بمحور، وتابعيّة، ومنصّة، وثقافة مغايرة؟

لقد تحوّل الاستحقاق إلى منعطف، قد يؤدي إلى الجمع إذا تلاقت الإرادات، ونزل البعض عن الشجرة، واقتنع بخيار الدولة، والدستور، والمؤسسات، والانتظام العام، ومارس دوره ضمن نطاق حقّه المتوازي، والمتساوي مع حقوق الآخرين. كما قد يؤدي إلى التباعد والإفتراق، إذا ما إستمرّت عنجهيّة الإستقواء، والإملاء، والإحتواء.

لقد شخّص الرئيس نبيه برّي أزمة الفراغ بالقول إنها ليست بين المسحيين والمسلمين، ولا بين الشيعة والسنّة، أو الشيعة والمسيحييّن، بل هي بين الموارنة والموارنة، ليرد عليه رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع بالقول: “إنها وطنيّة وبإمتياز بين من يريد لبنان لبنانيّاً، ومن يريده ممانعاً”.

ويضيف على ذلك، المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى، بمصطلح “لبنان عربيّ”، هكذا يقول الدستور في مقدّمته.

أما المبارزة الديمقراطيّة التي دعا إليها الرئيس برّي في ساحة النجمة، يمكن أن تكون ممكنة، لو توافرت ظروفها، واكتملت عناصرها، بحيث لا تقتصر على تداول أسماء المرشحين، ومعرفة نوعيات ربطات عنقهم، بل تشمل الأهداف، والبرامج، والتطلعات، وماذا في اليوم التالي بعد الوصول إلى بعبدا، وانتهاء مواسم الأفراح والليالي الملاح؟!

إن الموكب الرئاسي إنطلق في العام 2016 من الضاحيّة، باتجاه بيت الوسط، ومعراب، مروراً بساحة النجمة، وصولاً إلى بعبدا. اليوم تغيّرت المسافات، وتبدّلت الهندسات. قد ينطلق من عين التينة، والضاحية، لكن الطريق نحو بيت الوسط، والصيفي، ومعراب، وميرنا الشالوحي، ومقرّات أخرى، مزروعة بعوائق يصعب تجاوزها في ظل غياب كاسحة وطنيّة قادرة على تلطيف الخفايا، وتدوير الزوايا. والدليل أن البعض بدأ يتحدث جهاراً عن البديل، عن جولة جديدة من الحوار السعودي ـ الإيراني، ويراهن على نتائجها مسبقاً، ويعتبر بأنها سوف تنتهي إلى إتفاق حول إنهاء الحرب في اليمن، وإن حصل ذلك، سينعكس الأمر إيجاباً على لبنان، وتُزال العوائق، ويكمل الموكب الرئاسي طريقه نحو بعبدا.

البعض الآخر، يقرّ ويعترف بأن ما كان في الـ2016 لا يصّح في الـ2023، والمسافة ما بين الاستحقاق، والقصر الجمهوري تساوي تلك الفاصلة ما بين بعض الممسكين بمفاصل الأمور، والمبادرة الخليجيّة ـ العربيّة لإنقاذ لبنان. وعندما انساب الحديث عن مبادرة عربيّة ثلاثيّة في المقال ما قبل الأخير، كثرت الإستفسارات، وتوشّحت بعض ردود الفعل بالازدراء، والاستخفاف، لكن طالما ان الصدقيّة هدف، والموضوعيّة مقياس، لا بدّ من التمادي بعض الشيء من خلال تركيز المعلومات على بعض النقاط، والمفاصل:

أولاً، المبادرة العربيّة للإنقاذ، هي كويتيّة ـ سعوديّة ـ خليجيّة ـ عربيّة ـ فرنسيّة ـ أميركيّة ـ دوليّة.

ثانياً، حملها إلى بيروت الرئيس الدوري لمجلس جامعة الدول العربيّة، آنذاك، وزير خارجيّة دولة الكويت الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح في 24 كانون الثاني من العام الماضي 2022، وطرحها على المسؤولين، وكان ما كان من ردود فعل، لا تزال وقائعها ماثلة أمام المهتمين والمتابعين.

ثالثاً، إن مصر والسعوديّة وقطر مثّلوا العرب في اللقاء الخماسي في باريس، وأكدوا بأن حلّ الأزمة في لبنان يبدأ بحل أزمة الاستحقاق، وحل أزمة الاستحقاق يبدأ بوضع المبادرة العربيّة ـ الدولية موضع التنفيذ. أي بكلام أكثر وضوحاً، يبدأ بإختيار فريق عمل لبناني من رئيس للجمهوريّة، إلى رئيس للوزراء، إلى فريق وزاري مؤهل، وموثوق، يعمل على وضع مندرجات المبادرة موضع التنفيذ، بينها: ” قيام الحكومة اللبنانية بتنفيذ إصلاحات شاملة. والإلتزام  بتنفيذ إتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنيّة، والسلم الأهلي. وشمول الإصلاحات جميع القطاعات، ولا سيما الطاقة، ومكافحة الفساد، ومراقبة الحدود. والعمل مع لبنان لتنفيذ هذه الإجراءات. وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي 1559، و1701، و1680، والقرارات الدوليّة والعربيّة ذات الصلة. وضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعيّة. وضمان ألاّ يكون لبنان منطلقاً لأيّ أعمال إرهابيّة تزعزع استقرار وأمن المنطقة، ومصدراً لتجارة وترويج المخدرات. والتأكيد على أهميّة تعزيز دور الجيش اللبناني في الحفاظ على أمن واستقرار لبنان. وقف العدوان اللفظي والعملي ضد الدول العربيّة، وتحديداً الخليجيّة. والإلتزام بسياسة النأي بالتفس”.

رابعاً، إن الثلاثي العربي أكدّ في لقاء باريس الخماسي، أن الهدف من أي مسعى، أو مبادرة، هو إعادة لبنان إلى حضنه العربي، وتحصينه. وقد وافق الأميركي، والفرنسي أن يكون للشركاء العرب هامش عريض من التحرّك المنسّق.

ويبقى السؤال: إذا كان هذا سيناريو “العرس”.. فمتى “الزفّة”؟

في ظلّ غياب الحوار الداخلي، والتفاهمات المحليّة، واحتدام صراع المحاور في المنطقة، يبقى الرهان على صدمة ما قد تكون موجعة، ومن نتاج الفوضى الخلاقة.. وعندها، يمكن أن يبنى على الشيء مقتضاه!