/ جورج علم /
إنه الإستحقاق الرئاسي. إنه وليد جنبلاط. يحظى أداؤه باهتمام دبلوماسي عربي ودولي. مبادرته كانت مادة نقاش في باريس. الاجتماع الخماسي أخذ علماً بالأسماء، جوزاف عون رجل الأمن والمؤسسات. صلاح حنين رجل القانون والدستور، جهاد أزعور رجل المال وصندوق النقد الدولي.
طال النقاش، رفعت الخلاصات إلى المراجع، وصدرت كلمة السر إلى السفراء المعتمدين: “تابعوا عن كثب وسطية وليد جنبلاط الرئاسيّة”.
يُنظر الى حركته من زاوية مثلّثة الأبعاد:
إنه في موقع الحوار، نشر شباك وسطيته من الضاحية إلى بكركي، ومن الفعاليات السياسيّة إلى القيادات الروحيّة. يستشرف، يناقش، يطرح أفكاراً ومخارج. همّه أن يفتح ثغرة في الجدار المسدود.
يخضع الحوار راهناً، إلى احتجاز تعسفي في معتقل التكاذب، والتجاذب. كلّ يريده، لكن على قياس مصالحه، ووفق دفتر شروطه. وقد اختصر المشهد البطريرك بشارة الراعي بقوله: “الموارنة مختلفون حول هوية الرئيس، واللبنانيون مختلفون حول هوية لبنان!”.
هويتان مأزومتان متناقضتان. عندما يكون الخلاف حول هوية الوطن، وموقعه في محيطه والعالم، ودوره، ورسالته، لا يبقى بحاجة إلى رئيس، ولا من مبرر للخلاف حول مواصفاته طالما أن مواصفات البلد غير متطابقة عند أهله، هذا يريده شرقاً، وذاك يريده غرباً، وفريق يريده ولاية تابعة، وآخر يريده خارج المحاور والاصطفافات، فاعلاً في محيطه، ومنفتحاً على الآخرين.
وقبل معالجة “النهم الماروني” حول المنصب الأول، يجب معالجة خلل الولاء، والإنتماء، وهذا ما يعطّل الحوار، ويجوّف المؤسسات، ويضع البلاد على خطّ زلزال عنيف.
أهمية وليد جنبلاط هنا، أنه يهندس، في هذه المرحلة الفاصلة من مصير لبنان، صلات الوصل بين القيادات، وسائر المكوّنات. يملك حسّ المبادرة، ويحاول تدوير الزوايا. يحتلّ مكانة الإستشراف. يعاين ما يجري عند المنعطف الوطني. صاحب حضور لافت في زمن التقوقع والتصدّع، ونقطة ارتكاز الصيغة، والميثاق، المؤمن بالطائف، والغيور على لبنان التنوّع.
إنه في موقع الاعتدال.
خرج الخطاب السياسي عن المألوف، تسلّق بسرعة عمود التوتر العالي، وأضحت عبارات التخوين من القواسم المشتركة. تحول الاستحقاق إلى معركة تنفيس أحقاد، وتصفية حسابات، والتطاول على الصيغة، والتلاعب بتوازنات العيش المشترك، والتوغل في سراديب الفوضى لفرض أعراف جديدة على الحياة السياسيّة والوطنيّة، خارج ضوابط الدستور والمسارات الديمقراطية. لقد حوّل الجشع، والطمع، وانعدام روح المسؤوليّة، الاستحقاق إلى خط تماس لمعركة فاصلة بين السيادييّن، وأصحاب المشروع. خطّان متوازيان لا يلتقيان. هذا يريد رئيس تحدّ، وذاك يريده حارسا لـ”ورشة السلاح”.
لا يملك جنبلاط سوى وسطيته. قد يكون واحداً من الذين صدّقوا بأن “المجلس سيّد نفسه”، بعدما كشفت الممارسات، بأنه “سيّد نفسه عالقطعة”. عندما يكون من نكد سياسي يكون “سيّد نفسه”، لكن عندما يكون من شأن وطني، يحصل التباس، وتتعدد وجهات نظر حول تفسير الدستور.
صوت الاعتدال عنده، هو الأقوى في هذه المرحلة. مرشّح التحدّي لن يصل إلى بعبدا، والرهان على ميشال معوض ضاعت فرصه. ومرشّحو الآخرين لن يصلوا بالطريقة المعتمدة. لا بدّ من النزول عن الشجرة، ومن قبل الجميع، للوصول إلى تفاهم حول رئيس تدوّن مواصفاته بحبر لبناني، قبل أن يكتبها صندوق النقد الدولي، أو تفعلها دواوين السفارات.
إنه في الموقع المبادر، وصاحب مبادرة.
تابع وقائع اللقاء الخماسي في باريس، فلم ير رئيساً على صهوة حصان أبيض. أجرى إتصالاً مع نائب وزير الخارجيّة الروسي ميخائيل بوغدانوف، الخبير بشؤون لبنان، والمتخصص بملفات الشرق الأوسط، من دون الإفصاح عن الأهداف، والمضامين.
طرح الاتصال تساؤلات حول الإستحقاق الرئاسي، وأثار “حشرية” بعض السفراء، كونه تزامن مع انفراط العقد في باريس، والذي لم يحمل ترياق الحل.
قبل باريس، كان وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان في بيروت، ثم نائبه علي باقري كني، يتعمقان في بحث وضعية المركب اللبناني، وتوجهات الريح في أشرعته، في حين أن اللقاء الخماسي استكثر على اللبنانييّن إرسال موفد رسمي للتشاور، وتركوا لسفرائهم في بيروت مهمّة التنظير على المسؤولين حول المطلوب، والمرفوض.
السفارتان الفرنسيّة والأميركيّة تعرفان تماماً عمق الصداقة التي تربط زعيم المختارة بالقيادة الروسيّة، وتعرفان مدى الاحترام الذي يحظى به السفير اللبناني لدى موسكو شوقي بونصار، وقد كرّمه مؤخراً وزير الخارجيّة سيرغي لافروف باحتفال أقامه على شرفه بحضور السفراء العرب، تقديراً لمكانته، ودوره في تطوير العلاقات الثنائية، وخدمة القضايا العربيّة. وتعرفان بأن لقاء باريس لم يرتقِ إلى مستوى طموحات السيادييّن بانتخاب رئيس له مواصفات الفخامة، وأن الاتصال لذي تمّ بين المختارة والخارجيّة الروسيّة يُبنى عليه لجهة قيام نوع من التنسيق والتشاور ما بين موسكو وطهران حول الوضع في لبنان، وإمكانيّة توفير وسطيّة مؤاتية لملء الفراغ.
وما يثير الحشرية الدبلوماسيّة أن ما يقوم به رئيس كتلة “اللقاء الديمقراطي” النائب تيمور جنبلاط من جولة على القيادات الفعاليات الروحيّة والسياسيّة، يكمل “وسطية” والده، ويكسبها المزيد من الصدقيّة والاهتمام لأسباب ودوافع عدّة، أبرزها:
- إنه القلق على مستقبل الكيان، والباحث بجديّة عن شخصيّة وسطيّة مؤهلة لاكتساب لقب “فخامة الرئيس” لا تشكّل تحديّاً أو استفزازاً لأي طرف.
- إنه صاحب الخطاب الهادئ، في زمن بلغ فيه الخطاب السياسي، ومن قبل مرجعيات وازنة، أعلى معايير التنافر، والتحريض، والتخوين، والتجييش الفئوي.
- إن وسطيته في هذه المرحلة، تشكل نقطة ارتكاز وسط دائرة القيادات والمرجعيات. وفي ظل غياب الحوار، واستعصاءاته، تبقى محاولاته مبعث أمل حول إمكانية التفاهم على كلمة سواء تُخرج الإستحقاق من عنق الإنفعالات التي تطيح بما تبقى من مقومات وطن، ونظام، وكيان.