بتوقيت بيروت.. عاصمة الكتاب تسابق الأزمة

/ فاطمة جمعة /

يعود معرض بيروت العربي الدولي للكتاب بنسخته الـ66، عقب ثورات وانفجارات عاشها لبنان، ليثبّت أقدام العاصمة على خطى المعرفة والقراءة والثقافة، وليثبت أن بيروت ما زالت عاصمة الكتاب العربي.

مشهد زحمة السيارات في محيط واجهة بيروت البحرية، وصوت الزمامير والأضواء، يرجعنا بالذاكرة لمشهد الحطام والنيران قبل سنتين، ولأصوات الصراخ والأنين وروائح الدم. هذا المكان الذي دُمّر بالكامل يوم 4 آب، عاد بأقصى ما يملك من إمكانيات متواضعة، وبظل ظروف استثنائية، وكأن شيئاً لم يكن.

إنطلقت فعاليات معرض الكتاب يوم السبت 3/12/2022، بتنظيم النادي الثقافي العربي واتحاد الناشرين في لبنان، وبرعاية رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، حيث شارك بحدود 133 دار نشر تحت شعار “أنا أقرأ بتوقيت بيروت”.

السنيورة لـ”الجريدة”: خطوة لاستعادة الروح الثقافية

في هذا الإطار، اعتبر رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، في حديث ميداني لموقع “الجريدة”، أن المعرض خطوة جيدة على مسار استعادة الروح الثقافية للبنان، مؤكداً على الإصرار والمثابرة في انعقاده بشكل دوري رغم الأحداث التي عصفت بالبلاد.
من جهته، أكد وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين لـ”الجريدة”، أن الحكومة تدعم المعرض بسبيل إنجاح نشاطاته، مثنياً على أهمية الحفاظ على الروح الثقافية لبيروت.

بدولار 40 ألفاً.. أسعار الكتب “مقبولة”

في ظل الارتفاع التاريخي لسعر صرف الدولار في لبنان، وما قفز معه من أسعار السلع والخدمات، لم يكن سوق الكتاب بمأمن من الواقع الاقتصادي والمالي الراهن. فقد اختلفت أسعار الكتب اختلافاً شاسعاً، إلا أن التخدير الذي ينتاب الشعب اللبناني، وكأنه حقن بإبرة “مورفين” في عصب الاحتجاج والمواجهة، ليتحول تسليماً ولا مبالاة بالأزمة الحاصلة.

في قاعة “البيال”، يدفع الزائر سعر الكتاب 250 ألفاً وعلى وجهه ابتسامة الرضا، على اعتبار أنها بموازاة العشرين ألفا. تتراوح أسعار الكتب هذه السنة بين 150 و750 ألف ليرة كسعر أصلي، لكن اللافت هو حجم العروضات التي تبدأ من 15، 20، 25، 50 وصولاً إلى 80%، بحسب تاريخ إصدار الكتاب، ما يجعل سعر بعض الكتب يصل إلى 60 ألف ليرة. وبدا جلياً حجم المساعدة والمراعاة لدى القيمين على دور النشر، بوضع أسعار مدروسة جداً في سبيل التشجيع على القراءة، وأيضاً التحفيز على شراء ثلاثة كتب محددة، بسعر واحد (150 ألف منهم)، وتبقى الهدايا والاكسسوارات مجانية.

كذلك اعتمدت بعض دور النشر سعر صرف الدولار بـ30 ألف ليرة، فيما عزت الدور الممثلة لوزارات وبعثات دولية، السبب وراء تخفيض الأسعار بأنها لا تبغي الربح بقدر ما تهدف إلى نشر ثقافتها وتعزيز التنوع الفكري عند قاصدي المعرض.
أضف إلى ذلك، لوحظ تقديم إحدى الحوزات العلمية، “بونات” شراء لطلابها تحمل حسومات على الكتب الدينية في دور نشر معينة.

بالمحصلة، أجمع معظم زوار المعرض، لدى سؤالهم عن الأسعار، على كلمة “مقبولة”، ومنهم ما وصفها بـ”المعقولة” و”الوسط” و”الرخيصة”، على قاعدة التأقلم مع جنون الأسعار الذي لحق بقطاعات حيوية كالمطاعم والألبسة وغيرها.. فأصبحت “سندويش” الـ200 ألف.. رخيصة كما الكتب. بينما لا يمكن التغاضي عن أن تلك الأسعار “باهظة” بالنسبةً للقابعين تحت خط الفقر.

إقبال كثيف لا يختلف كثيراً عن السنوات الماضية

لم يختلف حجم الحضور في معرض الكتاب هذه السنة، عن حجمه بالدورات السابقة، كما لم يختلف يومه الخامس عن يوم الافتتاح. تعتبر معظم  دور النشر أن الإقبال على المعرض جيد جداً، فيما تشير قلة منهم إلى ضعف الإقبال، وهنا يجب اتخاذ ثلاثة اعتبارات: الأول أن دور النشر المشارِكة للمرة الأولى، ليست كما التي تشارك بشكل دوري حيث اعتاد الاقبال عليها. الثاني هو أن الدور التي تقدم عروضات وحسومات مثل دار “زمكان”، ليس كما الذي لا يفاوض على الأسعار. والثالث هو أن التاريخ والسمعة تزيد من إقبال الزوار، على غرار مكتبة أنطوان ودور الفارابي والرافدين، الذين يقصدهم القراء مباشرةً فور دخول المعرض.

من هنا ينوه المشرف على دار “زمكان” علي حمود لموقع “الجريدة”، أن “الإقبال زاد بشكل رهيب بفضل العروضات”، مؤكداً أن هدفه إزالة أي عائق يحول بين القارئ والكتاب. فيما تعكس مكتبة أنطوان الصورة التصاعدية للزائرين، أي أن عددهم تساوى كما قبل الأزمة الاقتصادية، وأغلبهم من فئة الشارين حتى من دون حسومات. كما سجلت احتفالات توقيع الكتب ازدحاماً هائلاً حرّك عجلة الإقبال على المعرض.

إنقسم زوار المعرض 50% بين التصفح والشراء، وفق ما صرح معظم دور النشر، فيما أقلية وصفتهم كمتصفحين أكثر من شارين. أما المميز بين الزوار، هم الطلاب والأطفال المشاركون بالمعرض، فتلحظ عند انتشارهم بين الأرجاء، ملامح اللهفة للكتب، وحب المطالعة والاستكشاف، على الرغم الثورة المعلوماتية التي تعصف بهم.

ميزات الدورة 66: التنوع والوطنية

بلغ عدد المؤسسات التربوية التي قصدت المعرض قرابة الثلاثين، وتجاوز عدد الطلاب الـ2200 طالب من مدرسة ومعهد وجامعة من مختلف المناطق اللبنانية. كما شهد المعرض إقامة 9 ندوات وتوقيع حوالي 84 كتاب حتى اليوم، وفق التقرير اليومي للمكتب الإعلامي لمعرض الكتاب. كان لافتاً التنوع الكبير في المعرض، والذي جسّد السمات الوطنية التي تميزه كل عام، فصور قادة الثورات بمختلف جنسياتهم من توجهاتهم موجودة بأحجام متقاربة، حتى أن زينة الميلاد، مثلها مثل زينة الأغاني والفنانين، ومثل الديكورات الدينية. أيضاً كان التنوع على صعيد اللغات، فتواجدت مكتبات ناطقة باللغة الفرنسية.

شاركت بالمعرض دور نشر مهمة وطليعة بتاريخ المعارض، كالآداب والساقي والفارابي وانطوان وناشرون والرافدين، حيث غابت جميعها عن المعرض الفائت، كما لوحظ حضور ـ ولو ضئيل ـ لدور نشر عراقية وسورية وعمانية ومصرية. كما كان هناك تواجد كبير للزوار العرب والأجانب، أكثر من السنة الماضية، منهم من فلسطين والكويت والأردن وسوريا والعراق والامارات والصين.
بالتالي، طغت السمات الوطنية ودحضت كل شائعات التسييس والطائفية، والتي ربما أثرت على المعرض السابق، إلا أنها انعدمت كلياً هذه السنة، وغلبت مظاهر التعايش والمحبة والعروبة، والانتماء اللبناني.

تحديات يواجهها معرض بيروت

رغم النجاح الفريد الذي يحققه معرض الكتاب، إلا أنه يواجه بعض التحديات الناتجة عن الأزمة الاقتصادية الراهنة، فضعف مشاركة دور النشر العربية، التي اقتصرت على 6 دور، مقارنةً مع سنين ما قبل الأزمة، يعود لتكاليف السفر وشحن الكتب والأمور اللوجستية. كما أن التوقيت الزمني لهذا المعرض جاء بالتزامن مع معارض للكتاب في بغداد والرياض، فانصرفت بعض دور النشر عن بيروت، لا سيما وأن أسعار الكتب في الرياض بالنسبة للدول العربية، أرخص من تلك في معرض بيروت. أيضاً تزامن مع فعاليات كأس العالم 2022، الذي سرق اهتمام الجميع، بخاصة العرب، وصارت أولوية مشاهدة مباريات المونديال، على حساب القراءة ومختلف المجالات الحياتية.

أضف إلى ذلك، ما زالت بيروت في مرحلة إعادة الإعمار بعد الإنفجار الكارثي للمرفأ وما لحق بدمار للواجهة البحرية، الأمر الذي قلّص مساحة معرض الكتاب، فيما كانت مساحته 10 ألاف متر مربع قبل الانفجار، وهو ما اشتكى منه بعض الحاضرين والقيمين عليه، من المساحات الداخلية للدور، إلى الممرات الضيقة. أما الامر الأهم، هو غياب خطوط النقل للمعرض، على غرار ما تفعل مدن أخرى، وهو ما شكّل عائقاً لدى بعض المدارس والطلاب، لا سيما القاطنين منهم في المناطق البعيدة عن بيروت، حيث يتكبدون أكلاف للمواصلات إما للنقل العام أو حتى بدل بنزين للباصات.

في هذا السياق، يوضح المسؤول الاعلامي للمعرض أكرم حمدان، في حديثه لموقع “الجريدة”، أن السبب وراء نجاح المعرض في ظل هذه التحديات، هو أن الناس المعنية بالقراءة والثقافة تحول أقبالها على معرض بيروت في شهر كانون الأول، إلى عادة وأسلوب حياة، فتنتظره كل سنة لتنتقي ما تريد وبأسعار تشجيعية. بالنتيجة، تبقى إقامة معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، وحدها النجاح والإنجاز الأبرز وسط الظروف العصيبة التي يمر بها لبنان وشعبه، وتبقى قاعة البيال التي شهدت أهم الأحداث التاريخية، مساحة للتلاقي والحوار والتبادل الثقافي، أما بيروت فهي فلا تحتاج معرضاً لتثبت أنها عاصمة الكتاب العربي.