الفراغ في الوطن.. لا في القصر!

 / جورج علم /

اعتماد سفير جديد للفاتيكان على وجه السرعة، وتقديم أوراق اعتماده إلى الرئيس ميشال عون، يعني استباقا لفراغ قد يطول في سدّة الرئاسة، والإسراع في إنجاز كامل الإجراءات البروتوكوليّة التي تقتضيها  المراسم الدبلوماسيّة المعتمدة، بحيث يمارس السفير نشاطه بصورة طبيعيّة، وتأكيد الحرص الفاتيكاني على متابعة التطورات والمستجدات عن كثب.

أولى الإهتمامات، مواكبة المغادرة من قصر بعبدا. هناك جهود تبذل كي تتم بطريقة سلميّة.

لا يحتاج اللبنانيّون، وتحديداً المسيحيون، إلى فصول جديدة من الأحقاد، والإنقسامات، والتوترات.

هناك شارع ينتظر لحظة المغادرة ليعبّر عن سعادته بإنتهاء عهد يحمّله كامل مسؤولية بلوغ “جهنم”.

وهناك شارع صافي الولاء للرئيس المغادر، ويرى فيه صورة “البطل” الذي صمد في وجه العواصف، وواجه كلّ الإستهدافات التي حاولت النيل من شخصه، وموقعه.

والإستعدادات، والتحضيرات التي يحاول كل طرف إعتمادها لمواكبة مسار المغادرة، قد تؤدي إلى احتكاكات بين الجمهورين، وربما إلى ما هو أبعد، وأخطر. لذلك نشطت مساع دبلوماسيّة، وسياسيّة، وأمنيّة لضبط الأمور، و”تقطيع هذا المشوار ما بين القصر، والرابيّة على خير، من دون ضربة كف”.

ومع بدء ولاية فخامة الفراغ في القصر الجمهوري، تبدأ مرحلة البحث الجدّي عن رئيس يحظى بتوافق دولي ـ إقليمي ـ عربي ـ محلّي، يصار الى إنتخابه في جلسة إستعراضيّة لمجلس النواب.

ويبدو التوفيق بين السقوف الأربعة مهمّة شاقة راهناً. ربما تتغيّر الظروف والحسابات والمقاربات، في غضون الأسابيع المقبلة، لكن الحاضر على الرفّ، حتى الآن، لا “يرف” ولا “يهف”، وكان الرئيس نبيه برّي واضحاً عندما حددّ المواصفات، رئيس يجمع، ولا يفرّق، يتمتع بحيثيّة إسلاميّة ومسيحيّة، يستطيع وصل لبنان مع الدول الشقيقة والصديقة، ويطبّق إتفاق الطائف. هذا كلام جميل، وتوصيف رائع، لكن المناسبة ليست إمتحاناً للبلاغة، بل مسؤوليّة وطنيّة دستوريّة تتطلّب من ممثلي الشعب الخروج من التنظير إلى التقرير، ومن القول إلى الفعل.

لقد إكتمل النصاب في جلسات متتالية ولم ينتخب الرئيس، ولم ينطلق الحوار الجدّي المسؤول بين كل المكونات لإجتياز النفق نحو فجر جديد.

هناك غالبيّة تتحدث عن الفراغ، وربما تريده، وتسعى إليه، لاعتقادها بأنه مولّد أزمات، والأزمات تولّد ضغوطاً من شأنها أن تغيّر المناخات التعطلية السائدة، بأخرى إيجابيّة، بحيث تلتقي المصالح المتنافرة على انتخاب رئيس لتلافي المطبّات المجهولة، وهذا أمر ممكن ـ أو غير مستبعد ـ لأن تجارب كثيرة سابقة خاضها اللبنانيّون وأفضت الى هذه النتيجة، إلاّ أن  المواصفات المتداولة حاليّاً بعيدة كل البعد عن تلك التي حددها الرئيس برّي، لأن العقدة ليست في شخص الرئيس بل في “شخص” الوطن. والعقدة لا تكمن في: “أي رئيس في بعبدا، بل رئيس لأي وطن”؟ والذين يحاولون اختصار المشكلة بالشخص، إنما يحاولون أن يتعاموا عن حقائق واضحة وضوح الشمس حوّلت مسار الفراغ هذه المرّة إلى إعادة قراءة الميثاق الوطني، ليس بطبعته السابقة عام 1943، بل بطبعة حديثة لم تكتمل مواصفاتها بعد.

من مولّدات الفراغ شعور بـ”الإستهداف”. إستهداف يقلق غالبيّة المسيحييّن. قد يعتبر البعض أن في القول مبالغة، وإن “التشخيص” بعيد عن المنطق، لأن الحرص على المناصفة، إنما هو قناعة راسخة عند المسلمين قبل المسيحييّن. ولكن ماذا عن الرقم؟ ماذا عن الطغيان العددي؟ وهل المناصفة متوافرة في عديد أنفار الجيش، وقوى الأمن الداخلي، وسائر مؤسسات الدولة، وإداراتها، أم أن الأمر مقتصر فقط على مناصب الفئة الاولى؟ إستدراكاً، قد يكون الخلل نتيجة  “الشرنقة” المسيحيّة، لكن الواقع أفضى إلى حقائق معيوشة.

ومن مولّدات الفراغ شعور بالإهانة، إهانة الموقع والمنصب. هل يقبل الثنائي الشيعي انتخاب رئيس مجلس النواب بالطريقة التي تعتمد لانتخاب رئيس الجمهوريّة؟ وهل تقبل الطائفة السنيّة بأن تتحوّل الإستشارات النيابيّة الملزمة لإختيار رئيس للحكومة الى مهزلة إستعراضيّة؟ وهل حافظ إنتخاب الرئيس على الوقار الذي كان معتمداً قبل إتفاق الطائف، وقبل معادلة فائض القوّة؟

ومن مولدات الفراغ شعور باختلال التوازنات. هناك أسئلة كثيرة حول “حزب الله”، وسلاحه، ودوره، ومآربه، وطموحاته، وماذا يريد تحديداً من الدولة، والنظام، والمؤسسات؟ هناك قناعة لدى العديد من المكونات الوطنيّة، وتحديداً المسيحيّة، بوجود خلل في التوزنات، وعندما تختلّ التوازنات في بلد مثل لبنان، تصبح الأسئلة مشروعة حول مستقبل النظام، والصيغة، والدليل أن الحزب أصرّ في السابق على انتخاب الرئيس القوي مسيحيّاً، وكانت النتيجة وصول البلاد إلى ما هي عليه اليوم من تعتير، وإذلال، وتقهقر، فماذا لو أصرّ على فرض الرئيس الذي يريده، أو على ممارسة “الفيتو” ضدّ أي رئيس لا يرى فيه مشروعه، أو لا يوفّر له الضمانات التي يريدها؟!

إن إعادة التوازن بين المكونات، شرط رئيسي، وربما ممر إلزامي لإنتخاب رئيس!

ومن مولدات الفراغ قلق يكبر ويتنامى مع كل صباح، عند المسيحييّن، وغالبيّة اللبنانييّن. إنه قلق التغيير الديموغرافي في لبنان. هناك بيئة وافدة بدأت تحتل مكانها، وموقعها في الوطن، على حساب المواطن. هناك بيئة المخيمات الفلسطينيّة التي لها خصوصيتها الأمنيّة، والسياسيّة، والإجتماعيّة، والمعيشيّة، وهي على إمتداد، وتوسع، وديمومة. وهناك مخيمات اللاجئين السورييّن التي لها خصوصياتها أيضاً، والتي تكتسب صفة الديمومة بفضل الدعم الدولي الواضح والصريح، والعجز المحلي عن إيجاد الحلول الناجعة نتيجة المزايدات، والفئويات، والحسابات المذهبيّة، والطائفيّة، والمصالح الخاصة لدى البعض التي تتقدم على مصالح الوطن.

إن وطناً يستقبل على أرضه، أكثر من نصف سكانه بحاجة إلى  النظر بحاضره، ومستقبله. وإن مولدات القلق ستجد في الفراغ الرئاسي فرصة، للبحث في مواصفات الوطن، قبل مواصفات الرئيس.

error: Content is protected !!