تقارير صادمة بالأرقام حول معدل الفقر والتضخم والتراجع الاجتماعي، تسجّل مؤخراً في لبنان، وهي تتسارع بوتيرة جنونية، وتصدر عن مؤسسات ودوائر ومنظمات محلية وعالمية تحذّر من الاقتراب شيئاً فشيئاً من خطّ “الجوع” وخطر الانفجار الاجتماعي.
اعتاد اللبنانيون منذ بداية الأزمة على ارتفاع الأسعار بشكل سريع، واللحاق بها لا يتوقف على ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء وتأثيره السلبي على كلفة المحروقات والإنتاج، بل هناك ألاعيب التّجار وحيلهم في التّحكم برقاب الناس ولقمة عيشهم، وتسعير المواد الغذائية بما يتوافق ومصالحهم، لتحقيق أرباح طائلة.
هم تجّار الأزمة، أو “المافيات”، العصابات الخارجة عن سلطة القانون ورقابته، لهم أساليبهم في التحايل على أجهزة الرقابة أيضاً، ينفّذون خططهم في الخفاء والعلن، وتذهلك قدراتهم “العجيبة” في سرعة تبديل الأسعار، أو حتى شطب السعر القديم وإلصاق سعر جديد. هبّة بضع ليرات في سعر الدولار، كفيلة بمضاعفة ثمن كيلو الرز أو ليتر الزيت، عدا عن عمليات الاحتكار وتخبئة المواد في مستودعاتهم (حتى لو فسدت) بهدف المناورة بانتظار ارتفاع الدولار لكي يحققوا أرباحهم، فلا أحد يحاسبهم!
وفي جولة سريعة على المحال التجارية، يبدو جلياً التفاوت في التسعيرة أولاً، ثم الارتفاع الكبير في ثمن البضاعة المركونة على الرفوف منذ أشهر، ولا حرج لدى البائع أن يسجل بقلمه الخاص السعر الجديد، ويجيب بوقاحة لدى الاستفسار: “ارتفع سعر الدولار…”.
مرجع أمني أكد لموقع “الجريدة” أن “التفلّت الحاصل في السوق وعدم ضبط الأسعار، يعود أولاً لتعدد سعر صرف الدولار، وعدم قدرة الدولة على الإمساك وضعف مديرية حماية المستهلك التي أصبحت جولاتها الرقابية فولكلورية ولزوم ما لا يلزم، وهي التي تتفرع منها دوائر عدة منها “دائرة المقاييس والموازين” و”دائرة قمع الغش” ودائرة مكافحة الاحتكار والغلاء”، وحتى نافذة تلقي شكاوى المواطنين لا جدوى منها، هي تحتاج إلى تعديلات أساسية لتصبح رادعة بالفعل لجشع هؤلاء التجار. كما أن قانون المنافسة هو الآخر يحتاج إلى تطوير، خصوصاً مع كثرة الامتيازات والاحتكارات الممنوحة في معظم القطاعات الاقتصادية والخدماتية، وكل ذلك مؤجل حالياً ولا جدية في التعاطي مع هذه المشكلة”.
واعتبر المرجع عينه، أن التعامل مع هذه المشكلة يحتاج إلى خلية أزمة وخطة طوارئ عاجلة وفرض حالة تعبئة، فالتلاعب بالأمن الغذائي خطّ أحمر، وحتى الآن لا زال معدل الجريمة والفلتان الأمني (انتشار السرقة والقتل والتفكك الأسري وغيرها) وبالرغم من ارتفاعه، مقبولاً نسبياً بالمقارنة مع تراجع الوضع الاقتصادي والاجتماعي”.
هَل اللوم يقع على المواطن “الساكت” عن المخالفات، الراضي بقضاء التجار وطمعهم؟ من يوقف حفلة الجنون؟ وإلى حين الفرج، كيف يعيش المواطن؟ كيف يأكل؟ كيف “يدَوزن” مصاريفه بين مدخول متواضع وفواتير تُحتسب بالملايين؟
لا شك أن إدارة الأزمة في كل منزل تعتمد على التقشف مع تآكل الرواتب وتدني قيمتها، والصمود ثلاثين يوماً يعني اقتصار المصروف على تأمين الاحتياجات الأساسية والأولويات للفواتير، ولا يختلف اثنان حول تأثير تدني قيمة الأجور في تغيير العادات اليومية للبنانيين، وتبدل نمط عيشهم.
لكن ذلك وحده لا يكفي، لأن المدخول الشهري للعائلة هو أقل بكثير من الحد الأدنى المطلوب، إذ أنه وفقاً لآخر دراسة، يتبين أن الحد الأدنى لمصروف عائلة هو بحدود 23 مليون ليرة، في حين أن الرواتب لم تصل إلى ربع هذا المبلغ، وبالتالي، فإن مسألة التعامل مع “ترتيب” الأولويات، وحسم كثير من الضروريات، والتخلّي عن “أساسيات”، هو القاعدة المعمول بها لدى العائلات التي تعتمد على الرواتب والدخل المحدود.
هنا تبرز إشكالية كبيرة، حيث أن زيادة الرواتب هي ضرورة، لكنها في الواقع شرّ أيضاً، لأن مؤشر الأسعار يرتفع أكثر من قيمة أي زيادة للرواتب، وهو ما حصل فعلاً مع إقرار الموازنة العامة التي رفعت رواتب موظفي الدولة مؤقتاً، ونظرياً، لأن الموظفين لم يقبضوا هذه الزيادة في انتظار توقيع قانون الموازنة، وأن تصبح نافذة، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية بما يطحن زيادة الرواتب قبل قبضها، إضافة إلى استمرار ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء وارتفاع أسعار المحروقات.
هي إذاً دوّامة لا يمكن الخروج منها بقرارات غير مدروسة، بينما على المواطن أن يتحمّل أعباءها، وأن يتعامل مع تداعياتها بمزيد من شد الأحزمة… إذا كان ذلك ممكناً بعد.