سايمون هندرسون (*)
عاد الخلاف المحتدم بين لبنان وإسرائيل حول الحدود البحرية المشتركة بينهما إلى درجة الغليان، مع وصول سفينة متخصصة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لإنتاج الغاز من حقل “كاريش”، الذي يقع على بعد أكثر من ثمانين كيلومتراً قبالة الساحل الشمالي. واستُخدمت قاطرتان لنقل سفينة “إنرجين باور” (Energean Power)، وهي وحدة عائمة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال وتصنيعه وتخزينه (FPSO)، طوال الطريق من سنغافورة حيث تم بناؤها، وعبرت قناة السويس في الأسبوع الماضي.
ويَعتبر لبنان أن حقل “كاريش” يقع في منطقته الاقتصادية الخالصة، أي المنطقة التي يمكن للبلدان الساحلية في المنطقة المطالبة بها، والتي تمتد إلى مائتي ميل بحري فيما يتخطى الاثني عشر ميلاً بحرياً من المياه الإقليمية العادية. وحتى الآن، لا يفصل أي خط متفق عليه بين المياه الإقليمية اللبنانية والإسرائيلية، أو بين المنطقتيْن الاقتصاديتيْن الخالصتيْن اللتين يطالب بهما البلدان، على الرغم من المحادثات التي أُجريت على مدى شهور بوساطة أميركية. وفي 5 حزيران/يونيو حذر لبنان إسرائيل من القيام بأي “عمل عدواني”، وفي 6 حزيران/يونيو دعا لبنان المبعوث الأميركي الخاص لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين إلى استئناف انخراطه في الوساطة بين لبنان وإسرائيل، على الرغم من أنه كان قد فقد الأمل سابقاً، ويبدو أنه يشعر بالإحباط من “التعنّت” اللبناني.
وستكون سفينة “إنرجين باور” في مهب الأعمال العسكرية العدائية، وتفيد وسائل الإعلام الإسرائيلية أن القوات البحرية تستعد للدفاع عن عملياتها ضد هجمات «حزب الله» بالسفن البحرية، والتي تشمل الغواصات، بالإضافة إلى بطارية القبة الحديدية المضادة للصواريخ المنقولة بحراً.
ويتمثل الحل للمحادثات البحرية، التي باءت بالفشل حتى الآن، في الاتفاق على الحدود البرية عند وصولها إلى البحر. وكانت إسرائيل مستعدة لتقديم تنازلات بشأن المطالبة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة التي قدمتها قبل أكثر من عقد إلى الأمم المتحدة، ولكن في عام 2020، زاد لبنان من نطاق مطالبه. وبدلاً من أن تدعو بيروت إلى اعتماد خط قريب من حقل “كاريش” غير المستغل، طالبت بخط أبعد جنوباً يشمل الحقل، وهو مطلب لا يمكن لإسرائيل قبوله.
وتشكل رغبة بيروت في التوصل إلى اتفاق مع الأمم المتحدة بدلاً من إسرائيل، التي لا تزال نظرياً في حالة حرب معها، تحدياً آخر. ويطرح لبنان أيضاً مسألة قانونية تتعلق بتأثير الخط البحري الذي يفصل بين الجزر الصغيرة، على الرغم من أنه يَستخدم الحجة العكسية على حدوده البحرية الشمالية مع سوريا. وما يزيد الطين بلة أنّه لم يتم الاتفاق رسمياً على الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، مما يجعل من الصعب تحديد النقطة التي توازي الحدود البرية في البحر الأبيض المتوسط.
وفي الوقت نفسه، لم تسفر التراخيص التي منحتها بيروت لشركات أجنبية لاستكشاف المناطق البحرية عن أنشطة تُذكر، ولم يتم اكتشاف احتياطيات كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، لبنان بحاجة ماسة إلى الوقود لتشغيل مولدات الطاقة. ويعتمد الكثير من اللبنانيين على مولدات خاصة محلية تعمل بالوقود النفطي، والتي لا توفر سوى ساعات قليلة من الكهرباء في اليوم. ولم يتم بعد تنفيذ مخطط لنقل الغاز المصري عبر الأردن إلى سوريا، وبالتالي توليد الكهرباء بلبنان.
ومن المقرر أن تبدأ الوحدة العائمة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال وتصنيعه وتخزينه، التي وصلت حديثاً، بإنتاج الغاز في الربع الثالث من هذا العام، وقد أبرمت بالفعل شركة “إنرجين”، التي يقع مقرها في لندن، عقوداً لإمداد محطات الطاقة الإسرائيلية بالغاز. إنّ حقل “كاريش”، إلى جانب حقلين آخرين حصلت شركة “إنرجين” على تراخيص لهما، هو أصغر بكثير من حقلي “لفياثان” و”تمار” اللذين يضخان حالياً الغاز الطبيعي في إسرائيل، ولكن باستخدام وحدة عائمة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال وتصنيعه وتخزينه، تكون الحقول الثلاثة مجدية تجاريّاً.
وعلى الرغم من أن هذا الخلاف الأخير يقتصر حالياً على المستوى الدبلوماسي، إلا أن هناك خطراً كبيراً من وقوع هجوم أو عمل عسكري أكبر. وربما تكون التوترات المتزايدة نتيجة جزئية لأخبار وصول الوحدة العائمة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال وتصنيعه وتخزينه إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. وستكون عملياتها بعيدة عن الأنظار من الساحل، مما قد يسمح بتجديد الجهود الأميركية لتهدئة التوترات أو حتى حلها، بعيداً عن مرأى الجماهير ومسمعهم.
(*) سايمون هندرسون مدير “برنامج برنستاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة” في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”