| فيصل طالب | (*)
ليس على النخب إلا أن تبقي مقارباتها معبّرة عمّا ينضح به الوجدان، وما تجود به المخيّلة، فتفتح بصيرتها على الأحلام، ولو شاغبتها الكوابيس وأقلقتها الهواجس، وأن تستنفر في هذا السبيل طاقات المجتمع الحيّة لتمثّل الحياة بأبهى رؤاها، وأنبل غاياتها، وأعظم ما فيها، في الطريق إلى تعرّف الإنسان في كينونته الذاتية والجمعية، وفِي سياق استفزاز فطرته الطيبة، واستحضار ما فيها من قيم الحق والخير والجمال؛ تماماً كما تتعرّف الطبيعة ذاتَها برقصة الضوء المتكسّر على صفحة الماء، وانتظام الألوان القزحيّة في شتاء الخير والعطاء. كذا هي حالُ القلقين الحالمين المنشغلين بالتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بألوان المكابدة، ونشوةُ المحتفلين بأنفاس الحياة الناهدة إلى إشباع الروح، وغمر النفس بإحساس الوجود الحيّ. عندئذ يصير لهذه الحياة طعم ولون ورائحة، فلا يغادرها الغمام الغرّ، ولا يفرغ منها الهواء، ولا تتكوّر فيها الدروب، ولا تهجرها العصافير.
كلّما عبق فضاء وجودنا بعطر الإبداع، أدركنا أن الورديّ فينا حيّ يُرزق، وأنّ مبدعينا الذين يصدقون أنفسهم ولا يصادقون واقعهم، يعرفون كيف يودعون توقَهم الجميل عالمَهم الافتراضي الساكن في لوحة الحياة المشتهاة، كما لو أنها مشهدية بكر!
في غمرة الاحتفال بمعارض الفنون الزاهرة، يغمرنا دائماً فرح اللقاء بفنّانينا المتميّزين، لتذوّق ما يعرضونه من أعمال، في فعاليّات فنية راقية تؤكّد أن الحياة الثقافية في وطننا، رغم كل شيء، ما تزال بألف خير، فيلحّ على رؤانا أمل ورجاء في صيغة من الأسئلة المشروعة:
– متى نعيد لبلدنا الوجه الثقافي الذي كان له في الستينيات وحتى أواسط السبعينيات: مطبعة الشرق وكتابه وصحيفته وجامعته ومختبره الحضاري ومنتدياته الفكرية والعلمية والفنية؟
– متى ننهض فعلاً لا قولاً لإعادة الاعتبار إلى العلاقة السوّية بين القارئ والكتاب، انطلاقاً من اضطلاع التربية الأسرية والمدرسية بدورها في هذا السبيل في عملية البناء المواطني والإنساني؟
– كيف نعزّز منسوب التأثير الثقافي في مجريات حياتنا العامة، على قاعدة جعل الثقافة الفضاء الأكثر رحابة واتصالاً بأوسع قطاعات المجتمع، وذلك بجعل خطابنا الثقافي خطاباً عمودياً وأفقياً في آن؛ إذ إنّ الشأن الثقافي ليس ترفاً فكرياً، بل هو حاجة لكل الناس، وإنّ من أولويات الفنون التشكيلية أن تقصّر المسافة بين نخبويتها وملامستها شرائح المجتمع كافة، للإسهام في تحقيق سوّيتها الثقافية ونشر الوعي الجمالي.
إن الفنون التشكيلية، بما تحمل من همّ البحث عن المعاني الغائبة، هي شوق لاستمرار الوجود بلا تكرار مملّ. إنها بوابة لرؤية أخرى، لمعنى آخر، ولإمكانية أخرى للفهم.
(*) المدير العام السابق لوزارة الثقافة