| خضر طالب |
لم تتمكن كل المعلومات المتناثرة، وكذلك البيان المنسوب إلى الرئيس السوري السابق بشار الأسد، من الإجابة على الأسئلة الكثيرة والكبيرة، المتعلّقة بأسباب وحيثيات وتفاصيل الانهيار السريع والمفاجئ لنظامٍ حَكَم سوريا 53 سنة.
في الواقع، فإن أسرار الأيام الأخيرة قبل سقوط النظام، سيبقى جزء منها طي الكتمان، إلى زمن غير محدّد، لأن الشركاء في صناعة الحدث التاريخي سيحاولون إخفاء الوقائع إلى أبعد مدى زمني ممكن. كما أن المعطيات الكاملة لـ”الزلزال” السوري فيها أكثر من “صدع”، وكل صدع عليه “رصد” و”حرّاس” يحتفظون بأسراره، ولن يكشفوا منه إلا القليل مما يناسبهم حول دورهم في “تنشيط” الفالق الزلزالي.
في المحصلة، انهار نظام، كان يُعتقد أنه “حديدي”، وتبيّن أنه مصاب بـ”ترقّق عظام”، وبالتالي لم يستطع الصمود أمام رياح التغيير التي هبّت على سوريا، ولو بفعل فاعل.
لم ينجح تجميع أوراق السقوط، وما تضمّنته من خفايا، في رسم المشهد الكامل لما حصل قبل السقوط، وخلاله، وبعده، كما أنه لم يتمكّن من استشراف المشهد الكامل لمستقبل سوريا.
أما السيناريو الذي أمكن صياغته لمسار انهيار نظام استطاع الصمود 14 سنة أمام “الخطة 1” لإسقاطه، فيبدأ تأريخه قبل نحو سنتين من فجر 8 كانون الأول 2024، عندما دخلت الفصائل المسلحة إلى العاصمة السورية دمشق، وأُعلن سقوط النظام.
“الخطة 2”
في المعطيات التي أمكن الحصول عليها، تدفع مؤشرات كثيرة إلى الاعتقاد بأن “الخطة 2″ لـ”إسقاط النظام” السوري، بدأت فعلياً قبل نحو سنتين، عندما بدأ الانفتاح العربي على بشار الأسد، وجرى استقباله في كل من السعودية والإمارات، وأُعيد مقعده في الجامعة العربية. لكن كان المقصود بـ”إسقاط” نظام الأسد ليس الانهيار، وإنما “استسلامه”، وانتقاله من “محور النقمة” إلى “محور النعمة” بحسب توصيف رئيس حكومة العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
كانت الخطة تقضي بـ”استعادة” الأسد وسوريا من “حضن” إيران. أدرك الأسد ذلك جيداً. لم يمانع لأنه يريد العودة إلى موقعه “الطبيعي”. لم “يتمنّع” أو “يتدلّل” لأنه “راغب”، خصوصاً أنه كان يسعى لاستعادة “مشروعيته” في العالم العربي، لعلّها تؤمن له بوابة عبور إلى استعادة “شرعيته” في العالم، بالتزامن مع “وشوشات” كانت بدأت تُسمع عن موافقته على السلام مع “إسرائيل” وتطبيع العلاقات معها بمبادرة إماراتية. لم يصدر عن الأسد ما ينفي أو يعترض على هذه “الوشوشات”.. لكنه أيضاً لم يكن راغباً بالتخلي عن علاقته مع إيران التي وقفت إلى جانبه عندما تخلى عنه الجميع، أو تآمروا عليه.
أساساً، كانت الخطة الإماراتية تقضي باستدراج الأسد إلى الدخول في “صفقة القرن” من خلال “اتفاقات إبراهيم” والتطبيع مع “إسرائيل”، وبتشجيع سعودي، لأن ذلك سيؤدي إلى سقوط آخر معاقل “الممانعة” العربية، على اعتبار أن لبنان سيسقط حكماً بعد دخول سوريا في مسار التطبيع، لأن لبنان لن يستطيع أن يبقى وحيداً خارج “صفقة القرن”، ولأن إيران لن تستطيع آنذاك تعطيل هذا المسار.
تفكيك “وحدة الساحات”
كانت “إسرائيل” تصعّد من هجماتها في سوريا على مواقع المجموعات العسكرية التي تدور في فلك إيران، وتكثّف غاراتها على مواقع لقوات “حزب الله” ومراكز “الحرس الثوري”. بينما كان الأسد مكتّف اليدين، وظهر عاجزاً أمام الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سوريا، حتى ظنّ كثيرون أن الأسد “يغضّ النظر” عن استهداف مواقع حلفائه في سوريا من ضمن استراتيجيته لإضعافهم.
تركت تلك الهجمات المكثّفة ندوباً في العلاقة بين سوريا وإيران، خصوصاً بعد أن دبّ الارتياب من دورٍ لمسؤولين سوريين في تعزيز فكرة إضعاف الوجود والتأثير الإيراني في سوريا.
مع ذلك، لم يجاهر الإيرانيون بهذا الارتياب.. حتى “طوفان الأقصى”، عندما فكّك الأسد معادلة “وحدة الساحات”، وأبلغ كلاً من إيران و”حزب الله” أنه لن يشارك في “إسناد” غزّة، كما أنه يرفض أن تُستخدم جبهة الجولان من أي طرف لفتح جبهة إسناد منها، وإن كان البعض يقدّم رواية مفادها أن “حزب الله” هو الذي طلب إبقاء ساحة سوريا خارج “وحدة الساحات”، لاعتبارات تتعلّق بخط الإمداد والعمق الاستراتيجي. إلا أن هذه الرواية بدت ضعيفة ربطاً بالوقائع التي توالت على مدى سنة ونيّف من العدوان على غزة ثم العدوان على لبنان.
“جرح حماس”
ساد فتور في الأيام الأولى بعد “طوفان الأقصى”، وأدرك الأسد أن عدداً من القيادات السياسية والعسكرية في سوريا، كان يريد فتح جبهة الجولان. دعا إلى اجتماع قيادي شارك فيه عدد كبير من قيادات الصف الأول، السياسية والعسكرية، وشرح لهم وجهة نظره لعدم فتح جبهة الجولان.
اكتشف الحاضرون في ذلك الاجتماع أن “جرح” حركة “حماس” لم يندمل عند الأسد. وإضافة إلى ذلك، أبلغهم أنه تلقى تحذيرات وتهديدات بأن فتح جبهة الجولان ستكون له تداعيات خطيرة على سوريا، إن على مستوى حجم التدمير الذي سيصيبها و”الجحيم” الذي سيفتح على سوريا، أو على مستوى تحرّك المعارضة في الشمال السوري. لم يذكر الأسد الجهة التي أبلغته التحذير ونقلت إليه التهديد، لكن الحاضرين تكهّنوا آنذاك أن دولة الإمارات هي التي نقلت التهديد وأبلغت التحذير، نظراً للعلاقة التي تطورت بين الأسد والمسؤولين في الإمارات.
أوضح الأسد للحاضرين أنه لن يكون شريكاً في مغامرة “حماس”. وصلت الرسالة إلى “حزب الله” الذي كان قد دخل فعلياً في المواجهة من “ساحة” واحدة، بعد أن عطّل الأسد “وحدة الساحات”. ولم تكن عمليات “الإسناد” المحدودة من اليمن والعراق قادرة على تعويض خسارة جبهة سوريا.
كانت تلك المحطة فاصلة في مسار العلاقة السورية ـ الإيرانية، مع تزايد الشعور الإيراني بأن الأسد سار خطوات عدة خارج “محور المقاومة”، سعياً إلى فك الحصار الصارم عليه، عربياً ودولياً، لقناعته أن الارتماء في “الحضن” الإيراني خلال سنوات الحرب، قد زاد من عزلته العربية والدولية.
لم تجاهر إيران بهواجسها، لكنها بادرت إلى سلسلة إجراءات “احترازية”، لأنها أدركت أن ساحة سوريا لم تعد مفتوحة على مصراعيها لـ”محور المقاومة”. وعزّز هذا الشعور مفاجأة الأسد بالطلب من إيران تخفيض عدد “المستشارين” العسكريين الإيرانيين في سوريا.
حسابات “خارج البيدر”
كان الأسد يسعى لإمساك العصا من الوسط. هو لا يريد أن يتخلى عن إيران و”محور المقاومة”، وفي الوقت ذاته يمنّي النفس بعودته إلى الحضن العربي الذي سيساهم بإعادة إعمار سوريا.
لم يكن بإمكان بشار الأسد أن يكون نقطة التقاء وتوازن بين إيران والدول العربية، وأيضاً مع الغرب، على غرار الدور الذي صاغه والده حافظ الأسد عندما شكّل حاجة عربية للتواصل مع إيران، وحاجة إيرانية للتواصل مع العرب.
تغيّرت الظروف كثيراً في زمن بشار الأسد عن زمن حافظ الأسد، خصوصاً أن الدول العربية، والخليجية تحديداً، فتحت خطوط اتصال مباشرة مع إيران، لكن بشار لم يحاول التسلّل إلى تلك القنوات لتأمين مقعد له على “خط التماس” بين “حليفه” الإيراني و”شقيقه” العربي.
كان بشار الأسد يعتقد أن الانفتاح الجزئي عليه من السعودية والإمارات، وقناعته بحاجة روسيا إليه كمرفأ في “المياه الدافئة”، وحاجة إيران إليه كممر إلزامي إلى لبنان، سيؤمن له حماية كبيرة، وجسر عبور لاستعادة بعض دوره وموقعه.
لكن… كل حسابات الأسد كانت خارج “البيدر” السياسي، فهو بالنتيجة خسر زخم الدعم الإيراني، ولم يربح العرب، خصوصاً أن الإمارات والسعودية لم تتمكّنا من فتح كل الأبواب العربية الموصدة أمامه، على الرغم من “مغامرة” الانفتاح عليه.
فقد الأسد كثيراً من أوراق القوة العسكرية التي كانت نجحت في حمايته من السقوط في العام 2015، عندما وضعت إيران ثقلها لإقناع روسيا بحمايته، ثم شاركت عسكرياً عبر عدد كبير من الضباط وفصائل مسلّحة يديرها “الحرس الثوري”، ثم عبر دخول “حزب الله” المباشر في المعركة، فضلاً عن فتح “خطوط اعتماد” مالية لدعم الأسد. وتردّد أن حجم الانفاق الإيراني في سوريا بلغ نحو 30 مليار دولار خلال نحو 10 سنوات من الحرب.. لتكتشف إيران أن هذه الأموال ذهبت هدراً مع تغيير الأسد وجهته ورهاناته على ثنائي الإمارات ـ السعودية الذي وعده بـ”النعيم” السياسي وإعادة إعمار سوريا، بينما كان “ثنائي” قطر ـ تركيا يترصّد الفرصة المناسبة لفتح أبواب “الجحيم” على الأسد والإنقضاض على نظامه.
خاسرون.. ورابحون
في المحصلة، خسر الأسد “محور المقاومة” وعلى رأسه إيران، ولم يدخل “محور النعمة”، ولم تستطع السعودية والإمارات حمايته من السقوط، بينما كانت إيران في موقع العاجز عن إنقاذه بعد أن فقدت مفاتيح قوتها في سوريا، وانشغل “حزب الله” بتضميد جراحاته العميقة.
خسرت إيران رهاناتها، وسقطت حساباتها، وسقط “محور الممانعة” بعد أن تعرّض لضربات قاسية أفقدته توازنه وتواصله.
خسر “الهلال الشيعي”، وانتهى “العصر الإيراني” في سوريا.
ربحت تركيا وقطر. أصبحت تركيا لاعباً رئيساً في سوريا بغطاء عربي تؤمنه قطر، وأصبح رجب طيب أردوغان لاعباً إقليمياً كبيراً في المنطقة، في غياب أي منافس عربي.
الهلال التركي.. و”الإسلام السياسي”
انتصر “الهلال التركي”، وبدأ “العصر التركي” في “بلاد الشام” التي تتجاوز الحدود الجغرافية للدولة السورية.. إلا إذا صارت “بلاد الشام” أصغر من حدود سوريا!
ربح “الإسلام السياسي” مجدداً في المنطقة، بعد سنوات من الأفول، لكن هذه المرة بـ”نموذج معدّل”، ويمكن أن يشكّل “الإسلام السياسي” الجديد نموذجاً لصورة المنطقة في المرحلة المقبلة، إذا تمكّن من النجاح في اختبار سوريا الذي تتولى تركيا إدارته.
ربحت “إسرائيل” و”مؤسّسها” الجديد بنيامين نتنياهو، بعد خروج سوريا من “محور المقاومة”، وبعد الضربات القوية التي تعرّض لها هذا المحور، سواء في غزة أو الضفة الغربية أو في لبنان، وبعد ذلك بخروج سوريا.
لاحت مقدمات انهيار نظام الأسد عندما بدأ يتملّص من الحضور الإيراني في سوريا، وتبعات تخفيف هذا الحضور، وتفكيك المنظومات العسكرية التي أنشأتها إيران كقوى رديفة للجيش السوري، والاكتفاء بمراقبة الاستهداف الاسرائيلي المتكرّر لمواقع “الحرس الثوري” و”حزب الله”، بينما كان الجيش السوري يزداد ضعفاً، ويتعمّم الفساد في صفوف ضباطه وجنوده الذين تمرّسوا بتحصيل الخوات على الحواجز، والرشاوى في المراكز…
ذلك الفساد وصل إلى معظم مستويات الهرم العسكري في الجيش والمخابرات وصولاً إلى رأسه!
هكذا بدأ السقوط
ثمة الكثير من الروايات المرتبطة بالأحداث الميدانية التي انتهت بخروج الأسد من دمشق إلى روسيا. لكن الوقائع الفعلية تكشف أن ما حصل بين 27 تشرين الثاني/نوفمبر و8 كانون الأول/ديسمبر، لم يكن وليد ساعات أو أيام من التحضير.
قبل نحو 6 أشهر، أطلقت روسيا وساطة بين بشار الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تجاوب سريعاً مع المسعى الروسي، وأطلق مواقف علنية تعبّر عن إيجابية في المصالحة مع الأسد، على الرغم من كل ما ساد من علاقة سيئة بين الرجلين طوال 14 سنة.
تضمّن جدول أعمال أردوغان مع الأسد 4 عناوين: الحوار مع المعارضة لتشكيل حكومة جامعة، تنفيذ مندرجات مفاوضات آستانة، إعادة النازحين السوريين من تركيا، إعطاء تركيا الحق في استخدام طريقM5 الذي يبلغ طوله نحو 450 كلم ويمتدّ من الحدود التركية عبر مدينة حلب مروراً بمعرّة النعمان وحماة وحمص والنبك ودمشق ومحافظة درعا وصولاً إلى نصيب على الحدود الأردنية.
ربما كان أردوغان بحاجة لهذه المصالحة مع الأسد، لأنه كان يستشعر خطر قيام دولة كردية على حدود تركيا بدعم أميركي. حملت مواقف أردوغان “تنازلات” في الشكل، لكن الأسد تردّد أولاً، ثم بدأ يضع شروطاً للقاء أردوغان.
اعتقد الأسد أن حاجة أردوغان للمصالحة تسمح له بفرض شروطه المسبقة. كان الأسد في تلك المرحلة يشعر أنه استعاد موقعه القوي في المنطقة: السعودية فتحت له أبوابها، والإمارات سبقتها، ومصر عادت للتواصل معه، إضافة إلى العديد من دول الخليج. كذلك بدأت بعض الدول الأوروبية بفتح قنوات اتصال غير مباشرة معه.
هناك من يرجّح أن الأسد تلقى تشجيعاً إماراتياً على وضع شروط للقاء أردوغان، خصوصاً أن في الخلفية العلاقة بين قطر وتركيا، مقابل التنافس والفتور الإماراتي ـ القطري.
تدخّل الإيرانيون لمساعدة الروس على تليين موقف الأسد، لكن الرئيس السوري لجأ إلى التصعيد بمواجهة أردوغان الذي كان بدأ يضغط عسكرياً في ريف حلب. ورفض مصالحة أردوغان قبل إعلان جدول زمني لانسحاب القوات التركية من سوريا.
ويبدو أن مساعي لقاء الأسد ـ أردوغان قد انتهت في مطلع شهر تشرين الثاني 2023، وهو ما شجع أردوغان على استراتيجية إسقاط الأسد.
الاجتماع السري
وإذا كانت خطوات الأسد خلال العامين الماضيين، التي حاول فيها الوقوف تحت مظلّة السعودية والإمارات، وتسببت بفتور غير معلن بينه وبين إيران، قد مهّدت لسقوطه، فإن خطة الإطباق الميداني عليه وُضعت في مدينة غازي عنتاب التركية، قبل نحو شهرين، أي مع بدء الحرب الشاملة التي شنتها “إسرائيل” على لبنان في 27 أيلول واغتيال السيد حسن نصر الله، وربما في اليوم نفسه الذي رفع فيه رئيس حكومة العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة الخريطتين التي أطلق عليهما إسمي “خريطة النقمة” و”خريطة النعمة”، وقصد بهما “محور المقاومة” و”محور التطبيع”.
تكشف معلومات أن اجتماعاً سرياً عُقد آنذاك، في مدينة غازي عنتاب التركية، شارك فيه كل من: رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز، رئيس جهاز الاستخبارات التركية إبراهيم قالن، رئيس جهاز أمن الدولة القطري خلفان الكعبي، ضباط كبار من أجهزة استخبارات خليجية، وممثلون عن بعض فصائل المعارضة السورية المسلحة.
في ذلك الاجتماع، تم إبلاغ المشاركين أن الأسد لا يريد إجراء إصلاحات، وأنه يناور لكسب الوقت، ورفض كل الجهود التي بذلت لإجراء تسوية، وبالتالي لم يعد ممكناً بقاء الوضع على ما هو عليه، وقد أصبحت الإطاحة به حاجة وضرورة، وأن الخدوات التمهيدية قد بدأت فعلياً، وأن “الظروف” متوفرة لتأمين “سقوط آمن” للنظام، لكن لم يتم الكشف عن تفاصيل خطة الإطاحة بالأسد. لكن بعض المشاركين لمسوا علامات اطمئنان إلى نجاح الخطة. كما وُضعت في ذلك الاجتماع العناوين الرئيسة للإجراءات التي يفترض أن تحصل بعد سقوط بشار الأسد.
بعد ساعات قليلة من ذلك الاجتماع، وصلت تقارير استخباراتية إلى كل من موسكو وطهران تفيد بفحوى الاجتماع، ما استدعى تحركاً سريعاً للمسؤولين الروس والإيرانيين للاستطلاع والاستدراك.. إن أمكن.
حمل المسؤولون الروس والإيرانيون إلى الأسد مشروع تسوية يقضي بإجراء تغييرات سريعة في النظام وفق مسار “آستانة”، لأن الجانب التركي كان يتهم الأسد بأنه يمارس التسويف لعدم تقديمه تنازلات في تركيبة النظام السياسي. تملّص الأسد من المساعي الروسية والإيرانية، وهو ما أعطى أردوغان دافعاً إضافياً لبدء تنفيذ خطة إسقاط الأسد.
الإشارة الأولى من روسيا
أما في الوقائع، فإن تاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر، سجّل الخطوة الأولى في عملية إسقاط بشار الأسد، مع بدء الفصائل المسلّحة عملية “ردع العدوان”، بالهجوم على مدينة حلب بعد معارك محدودة في قرى ريف حلب، كان لافتاً فيها عدم حصول مشاركة فعالة للفصائل العسكرية المحسوبة على إيران، وكذلك من مقاتلي “حزب الله”، والذين انسحب القسم الأكبر منهم قبل بدء المعارك.
كانت الشكوك قد بدأت تترسّخ حول خلفيات “اختفاء” كل من وزير الدفاع السوري العماد علي محمود عباس، ورئيس الأركان العماد عبد الكريم محمود إبراهيم، وقائد القوات الجوية اللواء توفيق أحمد خضور، وعدد من قادة الفرق العسكرية وأجهزة الأمن والمخابرات.
سارع الأسد، سراً، إلى موسكو، في اليوم التالي، أي في 28 تشرين الثاني/نوفمبر، لعله يستدرك.. لكنه لم يستطع لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واقتصر اللقاء على وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي نصحه بتنفيذ مخرجات اتفاق آستانه والحوار مع المعارضة، وأبلغه أن روسيا غير قادرة على تقديم المساعدة والدعم العسكري لأنه تبلّغ من القادة العسكريين الروس أن الجيش السوري يتقهقر بسرعة ولا يقاتل.
وكان لافتاً أن نائب رئيس مجلس الشيوخ الروسي كونستانتين كوساتشوف أعلن أن “أولوية روسيا هي إجلاء مواطنيها ودبلوماسييها وعسكرييها من سوريا”. واعتبر أن “الحرب الأهلية لن تنتهي اليوم، لكن من غير المرجح أن تستمر روسيا في تقديم الدعم لحكومة دمشق. سيتعين على السوريين التعامل معها بأنفسهم”.
ربما لم يلتقط الأسد الإشارة الروسية، فعاد إلى دمشق، وأجرى اتصالات بالإيرانيين الذين أوفدوا وزير الخارجية عباس عراقجي، في محاولة لإنقاذ نظام الأسد عبر تسوية في اللحظة الأخيرة، لكن عراقجي سمع من الأسد طلب المساعدة العسكرية من إيران بعد أن كان قبل أشهر قد طلب تقليص عدد المستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا.
كرّر عراقجي على مسمع الأسد الكلام الروسي بأن الجيش السوري لا يقاتل، ولا تستطيع الفصائل المدعومة من إيران، والتي تضاءل عديدها بشكل كبير، أن تكون بديلاً للجيش السوري.
وأبلغ عراقجي الأسد بوضوح أن إيران مستعدة للمساعدة إذا طلبت سوريا ذلك “رسمياً”.
أربك هذا المطلب بشار الأسد، فهو يعلم أن هكذا قرار سيُغضب الدول العربية التي فتحت أبوابها له، وسيؤدي إلى إقفال كل الأبواب التي فتحت له من الدول العربية. ولذلك فإن الأسد لم يستطع اتخاذ مثل هذا القرار الذي يعني بالنسبة له العودة إلى العام 2011.
بالتزامن، كان “الحشد الشعبي” في العراق يتراجع عن موقف كان “تسرّع” بإتخاذه عندما أبدى استعداده للمشاركة في الحرب إلى جانب الجيش السوري، فأعلن “الحشد الشعبي” أن نطاق عمله ودوره “محصور داخل الأراضي العراقية”.
انتقل عراقجي من دمشق إلى أنقرة، واجتمع مع المسؤولين الأتراك، ومنها إلى موسكو للقاء المسؤولين الروس، ثم اتصل بنظيره المصري.
بعد ساعات، سقطت مدينة حلب بأيدي الفصائل المسلحة.
لم تشارك روسيا والفصائل الإيرانية و”حزب الله” في المعارك بشكل مؤثر.
بعد يومين، وتحديداً يوم الجمعة 6 كانون الأول/ديسمبر، توجّه عراقجي إلى بغداد حيث عُقد اجتماع ثلاثي ضمه مع وزيري خارجية العراق وسوريا، قبل أن ينتقل الوزيران الإيراني والعراقي إلى العاصمة القطرية.
“كلمة السرّ”: أين وزير الدفاع ورئيس الأركان؟
كشف سقوط مدينة حلب السريع عن “كلمة سرّ” أخرجت الجيش السوري من المدينة بلا قتال. التبرير الأول الذي صدر عن وزارة الدفاع السورية أن الجيش “تجنّب خوض معارك داخل المدينة تؤدي إلى دمار وأضرار وخسائر بشرية ومادية”، لكن الحقيقة أن التعليمات التي صدرت بالانسحاب لم تكن سوى الحلقة الأساسية في خطة الإطاحة بالأسد، حيث ترسّخت الشكوك حول الدور الذي لعبه كل من وزير الدفاع السوري العماد علي محمود عباس، ورئيس الأركان العماد عبد الكريم محمود إبراهيم، وقائد القوات الجوية اللواء توفيق أحمد خضور، ومعهم عدد من القادة العسكريين، في تحييد الجيش. وثمة من يفسّر “اختفاء” هؤلاء منذ بدء الهجوم على حلب، بأنه كان “مدفوع الثمن”، وأنهم قبضوا ملايين الدولارات وحصلوا على ضمانات بعدم ملاحقتهم، مقابل انقلابهم على الأسد. غابت القيادة العسكرية عن السمع، وكانت التعليمات التي يتلقاها ضباط الجيش تباعاً تقضي بالإنسحاب والتموضع وعدم الاشتباك، وهو ما سمح للفصائل المسلحة بمتابعة اجتياحها “السلس” والسلمي للقرى والبلدات وصولاً إلى جبل زين العابدين حول مدينة حماة.
ولأن الاتصالات السياسية لم تكن قد خلصت إلى صياغة تسويات كاملة، شنّ الطيران الروسي غارات عنيفة على الفصائل المسلّحة. بعدها دارت معركة محدودة في جبل زين العابدين، قبل أن ينسحب الجيش السوري فجأة إلى داخل المدينة، ثم يسلّمها من دون إطلاق رصاصة واحدة.
كانت الاتصالات الروسية ـ الإيرانية ـ التركية تشهد دينامية مكثّفة، وعلى الأرجح أن الرئيس التركي قدّم “ضمانات” للجانبين الروسي والإيراني، حول “اليوم التالي” في سوريا بعد بشار الأسد.
“اختفاء” الجيش
بعد حماة، انطلقت الفصائل المسلحة نحو مدينة حمص. كان يعتقد أن المعركة حولها ستكون عنيفة جداً ومفصلية.. وفجأة “اختفى” الجيش السوري ودخلت الفصائل إلى حمص، ثم توجهت منها نحو العاصمة دمشق التي جرى تحصينها بشكل كبير.
ربما ظن الأسد أنه قادر على الصمود والتحصن في دمشق عدة أشهر من خلال طوق فرضته “الفرقة الرابعة” في الجيش بقيادة ماهر الأسد.
يوم الجمعة في 6 كانون الأول/ديسمبر، كانت الفصائل قد وصلت إلى محيط دمشق لخوض “المعركة الكبرى”…
“صفقة” الدوحة
أما في الدوحة، فقد انعقد اجتماع ضم وزراء خارجية كل من: قطر، السعودية، الأردن، مصر، العراق. إيران، تركيا، بالإضافة إلى ممثّل عن روسيا.
حصلت “الصفقة” على رأس الأسد. تفاهم المجتمعون على آلية لاستلام وتسليم السلطات في سوريا. وكان واضحاً أن تركيا هي التي تتولّى إدارة الدفة السياسية والعسكرية في سوريا بالوكالة والأصالة عن الفصائل العسكرية المسلّحة.
تم الاتفاق على أن تقوم الحكومة السورية التي يرأسها محمد الجلالي بتسليم السلطة إلى حكومة انتقالية يرأسها محمد البشير.
حصلت روسيا على ضمانات تتعلّق بالقاعدتين العسكريتين في سوريا: قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، وقاعدة طرطوس البحرية.
حصلت إيران على ضمانات تتعلّق بأمن الشيعة والعلويين والمقامات الدينية في سوريا.
تعهد الجانب التركي بتأمين هذا المسار، كما تولّى فتح قنوات اتصال بين “هيئة تحرير الشام” برئاسة أحمد الشرع (الجولاني)، وبين كل من روسيا وإيران، وذلك في سياق رسائل التطمين للجانبين.
“أخبار سيئة” للأسد: أهلاً بك في إيران!
ما أن انتهى الاجتماع في الدوحة، حتى أوفد المرشد الأعلى في إيران السيد علي خامنئي مستشاره علي لاريجاني إلى دمشق، بعيداً عن الإعلام، حيث التقى الرئيس بشار الأسد مساء الجمعة 6 كانون الأول/ديسمبر.
حمل لاريجاني “أخباراً سيئة” إلى الأسد تحت عنوان “قُضي الأمر”:
ـ الجيش السوري لا يقاتل.
ـ سنسحب المستشارين العسكريين الإيرانيين من سوريا.
ـ سنسحب الفصائل العسكرية التي تدعمها إيران من سوريا.
ـ “حزب الله” سيسحب باقي قواته من سوريا.
ـ لم يعد من الممكن القيام بأي إجراء.
ـ انتهى زمن المبادرات السياسية.
ـ الأفضل لك أن تغادر سوريا على وجه السرعة.
ـ توجيهات المرشد الأعلى السيد علي خامنئي أن إيران ترحب بك إذا قررت اللجوء إليها.
ما أن غادر لاريجاني دمشق، حتى سارع الأسد إلى إجراء اتصالات عربية واسعة شملت المسؤولين في دولة الإمارات والسعودية ومصر، وتأكد أن الأمور انتهت.
الساعات الأخيرة قبل موسكو
أدرك الأسد أن بقاءه في سوريا أصبح يشّكل خطراً على حياته، فاتصل بمندوب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخاص في دمشق، وهو صلة التواصل المباشر بين بوتين والأسد، والذي نقل إلى موسكو قرار الأسد بمغادرة سوريا إلى روسيا.
لكن الأسد لا يستطيع البوح بقراره لأحد من المقربين، لا مدير مكتبه ولا فريق عمله ومستشاريه، حتى أخيه ماهر الأسد، خصوصاً بعد أن تبلّغ بـ”اختفاء” وزير الدفاع السوري ورئيس الأركان وقائد القوات الجوية ومدير المخابرات الجوية وعدد كبير من قادة الجيش.
لم يستطع الأسد النوم تلك الليلة. كّرس وقته لتجهيز كل ما يستطيع أخذه من مقتنيات وملفات وأسرار.. و”ممتلكات”.
صباح السبت، 7 كانون الأول/ديسمبر، توجّه الأسد، إلى “قصر المهاجرين” الرئاسي، كعادته، واستدعى “ما بقي” من ضباط قيادة الجيش والمخابرات، واجتمع معهم ظهراً، وشجّعهم على الصمود، مؤكداً لهم أن الدعم الروسي “في الطريق”. لكن بعض الحاضرين لاحظوا شحوب وجه الأسد، وارتباكه وعدم تركيزه في الكلام.
بعد ذلك طلب من مستشارته بثينة شعبان موافاته مساء إلى مقر إقامته، لكتابة كلمة يريد توجيهها إلى الشعب السوري.
وعندما تلقى اتصالاً من رئيس الحكومة محمد الجلالي مساء يبلغه عن حصار دمشق، وليسأله توجيهاته، قال له الأسد “غداً نرى ماذا نفعل”!
ذهبت بثينة شعبان، بحسب الموعد، ووجدت مكان إقامة الرئيس الأسد خالياً إلا من بعض الحرس والعاملين فيه الذين يغادرون على عجل.
ليل السبت ـ الأحد، حضرت قوة “كوماندوز” روسية، ونقلت الأسد مع عدد من الصناديق إلى مطار دمشق بطوافة عسكرية، ثم انتقل بالطائرة إلى مطار حميميم في اللاذقية والتي جرى نقله منها على وجه السرعة إلى موسكو ليحصل على “لجوء إنساني” في روسيا.
سقط الأسد.. عاش “الجولاني”!
تبلّغ ضباط وعناصر الحرس الجمهوري قرار تسريحهم، فغادروا على عجل. وصلت الأخبار إلى الوحدات العسكرية، فسارع ضباطها وجنودها إلى مغادرة مواقعهم وتغيير ثيابهم العسكرية.
اختفى الجيش السوري من دمشق ومحيطها.. وباتت العاصمة السورية خالية من أي وجود عسكري، بينما كان مقاتلو الفصائل المسلّحة يقتربون من مداخلها.
صباح الأحد 8 كانون الأول/ديسمبر، استفاق السوريون في عاصمتهم على “سقوط النظام السوري” حتى قبل أن تدخل الفصائل المسلحة إلى دمشق.
خرج السوريون إلى الشوارع بعد “ليلة القبض على النظام”.. أسقطوا تمثال حافظ الأسد وحطّموه.. مزّقوا صور بشار الأسد وأحرقوها… تحوّل مقر إقامة بشار الأسد إلى “معلم سياحي”… “سقط الأسد.. عاش الجولاني”.. ولو إلى حين؟!
للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط
https://chat.whatsapp.com/GsVKY7K10Ps5CnREsooVzZ














