بين “الحارة” و”المختارة”: “نظرة” فـ”كلام واتسآبي” فلقاء.. ما الأهداف؟

/محمد حمية/

مرَت العلاقة بين “المختارة” و”الضاحية” بمراحل عدة، تخللتها تعرُجات و”طلعات” و”نزلات” وتحالفات وخصومات ومد وجزر، و”هبة باردة وهبة سخنة” وصلت أحياناً إلى حدود “المنازلة العسكرية” في 7 أيار 2008، بعد “شهر عسل” انتخابي إثر “التزاوج الرباعي” الذي ضمّهما إلى جانب “حركة أمل” و”تيار المستقبل” في العام 2005، قبل أن يقع الطلاق السياسي لاحقاً.

تقلّبت العلاقة مراتٍ ومرات، ودارت دورة سياسية كاملة، قلّب خلالها رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط “البندقية” من كتفٍ الى كتف، وتنقّل من ثغرٍ سياسي إلى آخر، وتموضع في خنادق إقليمية ودولية عدة، وفقاً للحسابات الإقليمية والدولية وميزان القوى في المنطقة.. من “زعيم” 14 آذار إلى حرب مع الحزب في 7 أيار 2008 إلى هدنة فرضها “اتفاق الدوحة” ثم زيارة سوريا في 2010، ثم انفجر الخلاف مع الحزب ومحوره أبان موجة “الربيع العربي” وامتداداً للحرب السورية والتمدد الإرهابي إلى لبنان، بعدما اختار جنبلاط الانخراط في هذه الحروب إلى جانب الحلف الأميركي – الخليجي.

وإن شهدت العلاقة بين “الحزب” و”الاشتراكي” فترة ثبات طويلة، في ظل وجود “الناظم السوري” للوضع الداخلي وللعلاقات والتوازنات والمعادلة السياسية الداخلية التي حظيت فيها “المختارة” بموقع متميز، لكن إرهاصات هذه العلاقة تعود الى مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005، في ذروة الانقسام السياسي والشعبي الداخلي، ما شكل انعطافة أولى وحادة في العلاقة بين الطرفين الذين اصطفا على ضفتين متعاكستين: 8 و14 آذار.

على الرغم من انتخابه “الجنرال” ميشال عون رئيساً للجمهورية، إلا أنه سارع بإشهار معارضته للتسوية الرئاسية بين عون والرئيس سعد الحريري في 2016 التي باركتها “الضاحية”، وانضم الى جبهة المعارضة للعهد التي تضمه إلى جانب رئيس مجلس النواب نبيه بري والوزير السابق سليمان فرنجية و”القوات اللبنانية” لاحقاً.

حاول جنبلاط اللعب عند خطوط الوسط وترك “شعرة معاوية” مع جميع اللاعبين المحليين، لكنه بقي ملازماً خطوط الدفاع عن عرينه في الجبل، واتصفت مواقفه بالهجوم على الحزب بعد انتفاضة 17 تشرين والانهيارات المتلاحقة، انسجاماً مع التوجهات الأميركية، لكنه لم يحرق المراكب والقوارب مع “الضاحية”، وإن أحرقها مع العهد.

جاء استحقاق الانتخابات النيابية ليصب جنبلاط جامّ غضبه على الحزب تحت عنوان “اقتحام الجبل” وعزله والقضاء على “الزعامة الجنبلاطية”، خاض المعركة الانتخابية ليفوز بها ضد معارضيه الدروز (الوزيران السابقان طلال أرسلان ووئام وهاب).. لكن جنبلاط طوى صفحة الانتخابات سريعاً، ومحا الليل كلام النهار، وبدأ إعداد العدة لـ”التكويعة” الجديدة بعدما اطمأن إلى زعامته واحتكاره التمثيل الدرزي في مجلسي النواب والحكومة.

دار “البيك” دورة تقلبات كاملة في المواقع والأدوار، إلى أن سقط مجدداً في “حضن الضاحية”.. لماذا؟

لم يستطع جنبلاط طيلة حياته السياسية “التخفف” من ثقل هواجسه السياسية والأمنية و”الوجودية”، أكان على مستقبل زعامته الطائفية والسياسية، أو موقع وريثه السياسي، أو مصير طائفة الموحدين في ظل الزلازل التي تضرب المنطقة والتي تكون الأقليات الطائفية عادة أكثر المتضررين منها، فضلاً عن المعاناة الاقتصادية والاجتماعية لبيئته والتي أثقلت كاهله.

فعّل جنبلاط “أنتاناته” و”راداراته” السياسية الخارجية لرصد وقراءة التحولات والمتغيرات في المنطقة وعلى الساحة الدولية، بعد جولة حروب سياسية وعسكرية واقتصادية بين القوى الإقليمية والدولية الكبرى، بموازاة مفاوضات تدور رحاها على صفيح ساخن من المواجهات.

بنظرة أشمل، التقط “زعيم المختارة” جملة مؤشرات قد ترسم، إذا ما اكتملت، مشهداً جديداً للمنطقة وربما للعالم،، من رحم الأحداث والتطورات الأخيرة وقد يُفقد الأميركيين الكثير من قوتهم وحضورهم:

* خروج “حزب الله” منتصراً، أكان في الحرب السورية أو المعركة مع الإرهاب والصمود المذهل الذي أظهره في الحرب السياسية والإعلامية والاقتصادية والمالية على لبنان، وتجاوز كل أنواع الفتن الأهلية، من انفجار مرفأ بيروت إلى اشتباك خلدة وحادثة شويا ومجزرة الطيونة.

* استعادة الحزب زمام المبادرة العسكرية وذروة قوته في حرب تموز 2005، بتقديم نفسه حامياً للثروة الغازية والنفطية التي تشكل سفينة النجاة لإنقاذ اللبنانيين من الجوع والفقر والموت، في ظل الحصار الخارجي والانهيارات المتتالية. يعرف جنبلاط أن أي حربٍ عسكرية مع إسرائيل سيخرج “حزب الله” منها منتصراً، وترتب موازين داخلية جديدة، وإن لم يخُض الحرب فهو رابح ايضاً من نتائج التراجع الإسرائيلي.. وكأن جنبلاط يخاطب نفسه في سره: إذا كان الأميركيون يفاوضون الإيرانيين ويوقعون اتفاقاً نووياً، والأتراك يلتقون مع السوريين.. والسعوديون يقابلون السوريين والإيرانيين.. فلماذا أقاطع “حزب الله” في لبنان؟

* اقتراب لحظة توقيع الاتفاق النووي الإيراني، والانفراج بين واشنطن وطهران.

* الإنعطافة التركية تجاه سوريا في أعقاب اللقاءات التركية ـ السورية، نتيجة الضغوط الروسية ـ الإيرانية على أنقرة لتسهيل الحل السياسي في سوريا.

* نتائج الحرب الروسية ـ الأوكرانية، والعجز الأميركي على احتواء تداعياتها العالمية، لا سيما على أوروبا وعلى أسعار الطاقة والقمح.

“عاصفة التحولات” حركت الهواجس الجنبلاطية مجدداً.. فقد يُترك جنبلاط بلا مظلة دولية وإقليمية بعد الانكفاء والانسحاب الأميركي من المنطقة، وانشغاله بالحرب مع روسيا والصين وبأزماته الداخلية، وبالتالي يجب البحث عن مظلة محلية ذات بعدٍ إقليمي، فكان التوجه الى “الضاحية”.. أسرع جنبلاط بإنجاز عملية “ترسيم” حدوده السياسية وموقعه ودوره في المعادلة الجديدة، وحجز مقعداً في قطار التسويات التي يشتمها جنبلاط ويتحسسها ويراها قريبة، قبل أن يلتحق بركب الفريق الذي سيدفع الأثمان السياسية في التسويات ويفوته الأوان.

لذلك بدأ جنبلاط بـ”دوزنة وأقلمة” خطابه السياسي، مسلفاً الحزب جملة مواقف تصب في خدمة توجهات “الضاحية”.

المطلعون على العلاقة بين حارة حريك والمختارة يكشفون لموقع “الجريدة” أن “التواصل بين جنبلاط وحزب الله لم ينقطع، فالاتصالات عبر “واتسآب” شغالة بين رئيس الاشتراكي ومسؤول لجنة الارتباط والتنسيق في الحزب فيق صفا، بشكلٍ مباشر أو عبر الوزير السابق غازي العريضي، فـ”البيك” يراسل صفا بشكلٍ دائم ودوري في أمور لا علاقة لها بالسياسة، لكن جنبلاط وسّع العلاقة الى مستوى اللقاء السياسي الرسمي.

هل تبقى العلاقة عند هذه الحدود الشكلية، أم تتعداها الى التنسيق في الاستحقاقات المقبلة؟

“الاستدارة الجنبلاطية” قد لا تنسحب سريعاً على تفاصيل الملفات السياسية.. فالحاصل الجنبلاطي غير مضمون، وقد يكون ممنوعاً من الصرف في سوق الاستحقاقات الدستورية، لا سيما رئاسة الجمهورية، فجنبلاط يتعامل على “القطعة”، لكن قد يفتح “لقاء كليمنصو” الباب أمام تنسيق أوسع لكن الأمور في أوانها.