“حروب المواصفات” الرئاسيّة.. و”بورصة” التصفيات النهائيّة!

/ جورج علم /

يقول سمير جعجع أمام جمهوره إنه “مرشح طبيعي لرئاسة الجمهوريّة”. وينشط سليمان فرنجيّة على أنه “مرشح طبيعي للرئاسة”. ويسري هذا “المعيار” على جبران باسيل، وربما على موارنة آخرين، فيما يبقى السؤال: ما هي صفات ومواصفات المرشح الطبيعي؟ ثم كيف يصحّ أن يكون “مرشحا طبيعيّا”، لوضع غير طبيعي يفتك بالبلاد والعباد؟!

هناك فراغات شاسعة لا تستند الى قاعدة، ولا يتقبّلها منطق سليم، ذلك أن “الطبيعي” يحتاج إلى ما يؤالفه في الشكل والمضمون، كي يحصل الإنسجام، وإلاّ إذا ما اختلفت  المعايير، واحتكت العناصر المتنافرة بعضها بالبعض الآخر، تولّد برق ورعد، وتكوّنت أعاصير ساحقة ماحقة، لبنان بغنى عنها، لأن ما فيه يكفيه، وهذا ما دفع بالبطريرك بشارة الراعي إلى التدخل ليحدّد المواصفات التي يفترض أن يتمتع بها أي مرشّح للرئاسة الأولى.

حاول البطريرك “أن يكحلها، فعماها”! ذلك أن المواصفات التي طرحها، أحرجت كثيرين، وأخرجتهم عن صمتهم، ودفعت بالبعض إلى فتح الكتاب المغلق منذ سنوات، لقراءة فصول لا تتفق مضامينها مع واقع الحال الذي تحاول بكركي إصلاح مساره، وتضميد جراحه المختومة على زغل.

كانت السبّاقة في إحتضان “الأقوياء الأربعة”: “التيار الوطني الحر”، و”القوات اللبنانية”، و”الكتائب”، و”المردة”، تحت شعار المصالحة، والترفع إلى مستوى المسؤوليّة الوطنيّة، ودفن الخصومات والحساسيات، والتوافق على اختيار الأكثر كفاءة كربّان لقيادة سفينة الوطن إلى شاطىء الأمان، فإذا بالحوافز تتحوّل الى مآخذ، أولها أن “القوي” هنا هو قائد ميليشيا، أو قائد جبهة على خط تماس الحرب الأهليّة، أو قائد كتلة نيابيّة ولدت من أجنّة المنغّصات والنكسات.

إن التوصيف هذا قد شظّى الطائفة، وانتهك خصوصيتها، وشرذم صفوفها بين من هو “قوي” بحضوره الميداني، ومن هو “قويّ” بكفاءاته الشخصيّة، ومؤهلاته الوطنيّة.

بعد “الأقوياء الأربعة”، لم يعد من مكان لجان عبيد، ونسيب لحود، وبيار حلو، وميشال إده، ومخايل الضاهر… وغيرهم.. وغيرهم من الرموز المنحوتة طبقا لمواصفات الوطن المتنوع بطوائفه، والدقيق بتوازناته. كان هناك انفصام في تعريف الشخصيّة الوطنية القياديّة التي يحتاجها لبنان المرصوف على خطّ زلزال تاريخيّ متعرّج، متموّج ما بين الشرق والغرب. كما كان انفصال ما بين الماضي والحاضر، حيث عرف لبنان بشارة الخوري  بمواصفات رجل الإستقلال، والميثاق. وكميل شمعون بمواصفات “فتى العروبة الأغر”. وفؤاد شهاب بمواصفات رجل الدولة باني المؤسسات. وشارل حلو بمواصفات الرئيس المثقف. والياس سركيس  بمواصفات رجل المال والإدارة… وللمفارقة أن بكركي التي كانت مع “الرئيس القوي” في الأمس، تريد اليوم رئيسا بمواصفات الياس سركيس!

والذين يقرأون في كتاب الماضي، يتوقفون عند “الإنفحاط” الكبير بمئويّة “لبنان الكبير”، ومراسم الإحتفاء والتبجيل، ومطوّلات الإشادة بالمحطات التاريخيّة، متجاهلين الثغرات، والسقطات، والهفوات. كثيرون اليوم، يجاهرون بالحقيقة الصادمة. مئة عام لم يتمكن اللبنانيّون خلالها من بناء الدولة القويّة، القادرة، العادلة، والمنفتحة.  لم يتمكنوا من إرساء وطن على أسس الحق، والعدل، والمساواة. ولا من تنشئة مواطن صاحب ولاء صاف للبنان، قبل أن يكون للعائلة، والعشيرة، والطائفة، والمذهب، والحزب، والفئة، والمنطقة.

مئة عام من الأبواب المشلّعة، والنوافذ المشرّعة، والحدود المستباحة، والولاءات المتناقضة، والفئويات المتناحرة المتناهشة.

مئة عام حُمّلت أوزارها لـ”المارونيّة السياسيّة”، وعندما نُحرت، وقضي عليها في الحرب الأهليّة، جاء اتفاق الطائف لينقل قادة الميليشيات من الشارع إلى كنف المؤسسات لبناء الدولة الحديثة المتمكنة، فإذا بالوليد مسخ برؤوس ثلاثة. كيف يدار جسم برؤوس ثلاثة؟! إنها المعجزة اللبنانيّة، لكنها معجزة قادت إلى العجز، والتعجيز، لا إلى الكمال، والتفوّق، والإبداع، وخير شاهد “حروب المواصفات”، واختلال التوازن، وتشتت القوى، وتفاقم المضاعفات، واستباحة المؤسسات، وتعاظم نفوذ قوى الأمر الواقع، فإذا الدولة في إجازة، والوطن في مهب الريح.

مئة عام، لم يبق كبير من “لبنان الكبير” سوى مواطن متسوّل يفتش في الداخل عن شمعة، عن رغيف خبز، عن حبّة دواء، عن سرير في مستشفى، أو يفتش عن وطن بديل، فيما الأوصاف، والمواصفات تحاول أن ترقّع ثوبا مهلهلاً، ونظاماً جشعاً، ووطناً مغموراً بالفساد، وباعتراف الأقربين، قبل الأبعدين.

ألا يستحسن في ذروة هذه المعاناة الطاحنة سؤال “المرشح الطبيعي”، متى رفع معاول البناء، والإصلاح على مدى تاريخه السياسي، وانخراطه في الحقل العام؟ ألا يستحسن سؤاله عن أهليته، وكفاءته، وخبرته في الحياة، سوى نكء الجراح، وتفتيت حجر الزاوية الذي يتكىء عليه البنيان الوطني؟

دفنت حروب المواصفات، المارونيّة السياسيّة في جوف “لبنان الكبير”، وساهمت بكركي في مراسم الدفن، عندما قبلت بالطائف بديلاً عن استمرار الحرب الأهليّة، لكن الحرب استمرت بوجوه مختلفة، وأساليب متعددة، وفنون متنوعة، فلا “الوريث الشرعي” طهّر البلاد من بلايا “المارونيّة السياسيّة” ورزاياها، ولا الحريص على الوزنات قد  حافظ على التوازنات. وبدلاً من التغني بفائض دولة الطائف، وما قدّمته من إصلاحات، وإنجازات، نتغنّى اليوم بفائض الدويلات، والإنهيارات، والولاءات المحروسة بقمصان تتراوح ألوانها ما بين الأسود، والبرتقالي، والأحمر، والأزرق، والزيتي، والمزركش…

وما بين “المرشح الطبيعي” للجمهوريّة ، و”طبيعة الجمهوريّة” المرشّحة للإرتطام الكبير، مسافات ضوئيّة، فلا طالب القرب على قدر المواصفات والمؤهلات، ولا صاحبة الوجه الصبوح مستسلمة أمام كلّ عاشق، ومشتاق. وعندما لا تتطابق الموصفات مع حجم التحديات، يصبح الإستحقاق مجرّد سهم متداول قي بورصة المضاربات الخارجيّة!