“معركة غـزّة” و”صفيح الاستحقاقات والمعادلات”.. ما هي الرسائل والأهداف!

/محمد حمية/

لم يكُن العدوان الإسرائيلي على حركة “الجهاد الاسلامي” بعيداً عن سياق التطورات والأحداث والاستحقاقات التي تشهدها المنطقة، ولا خارج محاولة الاحتلال الدائمة لتعديل موازين القوى الميدانية التي تميل لمصلحة “محور المقاومة”، واتباع سياسة خوض المعارك الصغيرة بين الحرب الكبرى تجنباً لتداعياتها، وذلك لفرض أمر واقع يُغيّر المواقع التفاوضية في عملية شد الحبال وعض الأصابع بين الكيان الصهيوني ودول وحركات المقاومة.

لا بد من الإشارة إلى أن الهجوم الاسرائيلي على غزة جاء بالتزامن مع جملة معطيات وعلى وقع صفيح ساخن من الاستحقاقات:

*زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة والأراضي الفلسطينية المحتلة لبحث ملفات استراتيجية وحيوية تتعلق بالأمن الاستراتيجي والاقتصادي لكيان الاحتلال وبطبيعة الحال مشروع التطبيع.

*التقدم في المفاوضات بين طهران والقوى الغربية باتجاه توقيع الاتفاق النووي.

* تسارع وتيرة المفاوضات في ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع فلسطين المحتلة، والحديث عن اتفاق وشيك على الترسيم على وقع المواقف والتهديدات التي يطلقها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ملوّحاً بالحرب، بموازاة الخلاف داخل الكيان الصهيوني المحتل حيال القرار النهائي.

* دخول الكيان المحتل في مدار الإنتخابات في ظل أزمة سياسية داخلية.

ليست خافية المعارضة الاسرائيلية الشديدة للاتفاق النووي الايراني، وسط معلومات تشير إلى دورٍ إسرائيليي ـ خليجي في الضغط على الإدارة الأميركية لتأخير توقيع الاتفاق، والتعويل على إمكانية لتعديل موازين القوى العسكرية مع إيران ومحورها في المنطقة بالخيار والوسائل العسكرية. ويبدو أن الإسرائيليين انتزعوا، خلال المباحثات مع الرئيس الأميركي، فرصة لضرب أحد أذرع إيران، ومنح الأميركيين هامشاً أكبر للمناورة في تأخير التوقيع أو تجميده، مقابل ضمان الرئيس الأميركي دعم الجالية اليهودية في أميركا في الانتخابات النصفية الأميركية بعد أشهر قليلة.

لماذا وقع الإختيار على “الجهاد الاسلامي”؟

تُعد “الجهاد” الفصيل الفلسطيني الأقرب لطهران، أو “الجناح الايراني في غزة” بحسب وصف “تل أبيب”. لذلك تعتبر المعركة الأقل كلفة وخطورة، في ظل استحالة ضمان نصر في أي حرب مع إيران أو “حزب الله” أو حتى مع “حماس”. فكان التوجه الاسرائيلي للاستفراد بـ”الجهاد” وأخذها على حين غرة، مستفيداً من هدوء الجبهات المحيطة، كون إيران لا تريد الحرب على مسافة قاب قوسين أو أدنى من توقيع الاتفاق الذي سيُحقق لها مكاسب كبيرة، فيما حركة “حماس” مقيّدة بجملة اتفاقات وقواعد اشتباك بضغط ثلاثي تركي ـ قطري ـ مصري، بعد معركة “سيف القدس” العام الماضي. أما “حزب الله” فهو مقيّد بملف ترسيم الحدود، ولن يطلق “طلقة الرحمة” على اتفاق الترسيم المرتقب قبل المهلة التي حددها أمينه العام في الأول من أيلول.

ولم يكُن محضُ صدفة، اختيار توقيت الهجوم المباغت على غزة، على مسافة 3 أسابيع من انتهاء المهلة التي حددها نصرالله لاطلاق المسار العسكري، فكان استهداف “الجهاد” رسالة اسرائيلية بالنار لـ”حزب الله”، مفادها أن أي استهداف لمنصة “كاريش” أو غيرها، لن تقف “تل أبيب” مكتوفة اليدين، وستكون ردة الفعل ضد لبنان مشابهة لردة الفعل في غزة. ولذلك يحاول المسؤولون الاسرائيليون اللعب على وتر الحرب النفسية واستغلال ظروف اللبنانيين الاقتصادية الصعبة، وتذكير الوعي الجمعي لبيئة المقاومة واللبنانيين عموماً، بتدمير الضاحية الجنوبية في عدوان 2006، لخلق بيئة رأي عام معارض لأي حرب يشنها “حزب الله” ضد المصالح الاسرائيلية.

لذلك، اختارت اسرائيل هذا التوقيت السياسي للانقضاض على “الجهاد”، وفرض أمر واقع ميداني جديد في المنطقة، وكان الاختبار بالنار لقدرة الرد والردع لدى “الجهاد”، ومن خلفها جهوزية وجدية الجانب الايراني و”حزب لله”، وبالتالي لموازين القوى العسكرية.. فالرهان الاسرائيلي، وفق ما تقول مصادر فلسطينية لـ”الجريدة”، كان على عدم رد الجهاد لاعتبارات تتعلق بتمديد مفاعيل سياسة التهدئة لدى إيران و”حزب الله” في الوقت الراهن، فتستكمل “إسرائيل” هجومها حتى ليّ أحد أذرع إيران (الجهاد)، وتقدمه كإنجاز عسكري يمكن استثماره في الانتخابات، وصرفه برفع سقف التحدي والمواجهة على ثلاث جبهات:

* الجبهة مع حركة “حماس”: أي هزيمة لـ”حركة الجهاد” سيُسيل لعاب حكومة يائير لابيد لاستكمال القضاء على “حماس”، كمقدمة لتصفية القضية الفلسطينية وإحياء مشروع “صفقة القرن”. لكن مسارعة “الجهاد” لإعلان معركة “توحيد الساحات” وإطلاق الصواريخ على المستوطنات، والرسائل التي وصلت إلى الكيان بأن “استمرار العدوان سيؤدي الى تدحرج الوضع ودخول كافة الفصائل الفلسطينية في المعركة التي يريد العدو أخذهم فرادى”، إذ أن “حماس” لن تنتظر أن تكون الهدف التالي بعد الجهاد وفق المثل الشعبي القائل: “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”، لذلك تسارعت الاتصالات والوساطات المصرية للتوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار.

* الجبهة مع إيران: القضاء على “الظهير الإيراني” في فلسطين، سيرفع الضغوط الإسرائيلية على الولايات المتحدة لتعليق الاتفاق النووي، ومنح فرصة جديدة لـ”تقليم أظافر” إيران الأخرى في المنطقة، “حماس” و”حزب الله”، لفرض ميزان قوى جديد يُمكّن الأميركيين من تجميد المفاوضات والحل السلمي وإعادة وضع الخيار العسكري على الطاولة، أو استخدام القوة والتهديد في المفاوضات لتقليص المكاسب الإيرانية في أي اتفاق مرتقب.

* الجبهة مع “حزب الله”: إن فرض ميزان قوى جديد في غزة، سينعكس على ملف ترسيم الحدود مع لبنان، ويمنح إسرائيل فائض قوة وإثارة لشهيتها بشن عدوان استباقي على “حزب الله”، لبعّثرة تفاصيل الاتفاق المبدئي الذي توصل إليه الموفد الأميركي عاموس هوكشتاين حول ترسيم الحدود، ويمنحها بالتالي قدرة على تعديل الاتفاق لصالحها بعد تجويف معادلة السيد نصرالله العسكرية النفطية: “غاز ونفط شاطئ لبنان، مقابل غاز ونفط شاطئ فلسطين المحتلة” و”ما بعد بعد كاريش”، وبالتالي العودة إلى التوان السابق.

لكن صمود حركة “الجهاد” وسرعة ردها الصاروخي، فَرَض هدنة على الاحتلال، وسيُعيد الزخم إلى الخيارات التفاوضية والحلول السلمية على ثلاثة محاور:

* تثبيت الهدنة في قطاع غزة بين فصائل المقاومة والاحتلال وحماية التوازن الميداني الحالي حتى إشعار آخر.

* تسريع توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، ولو تم تأجيل استخراج الغاز من “كاريش” الى ما بعد الانتخابات، لأسباب سياسية داخلية بحتة.

* تسريع الخطى باتجاه توقيع الملف النووي الايراني، بعد تقليص هامش المناورة الأميركي.