/ جورج علم /
تركت التطورات المتسارعة في العراق أصداء واسعة. احتلال مبنى مجلس النواب، والإحاطة به بدروع بشريّة، مشهد لا تتقبله الدول العريقة بتقاليدها الديموقراطيّة. ومع ذلك تراوحت ردود فعلها بين النصح والتمنّي، لأن ما يجري إنما يتفاعل تحت عناوين داخليّة، وإن كان المحرّك خارجياً.
وما بين العراق ولبنان أوجه شبه لا يمكن تشريحها بشكل دقيق ومفصل حتى لا تنحرف الأمور نحو اتجاهات يصعب العودة منها بسلاسة، وسلامة موفورة، بل يكفي التوقف أمام بيت الديموقراطيّة، المرجعيّة الأم للنظام. في العراق مطلوب من البرلمان ألّا يدفع بالبلد نحو المجهول. وفي لبنان مطلوب من البرلمان أن “يُخرّج الحلول”.
وليس من باب النكد السياسي، أن يصوّب رئيس الجمهوريّة البوصلة باتجاه المجلس النيابي، رئيساً، وأعضاء، ليذكّرهم بمسؤوليّة انتخاب خلف له ضمن المهلة الدستوريّة. لقد قال كلاماً واضحاً وصريحاً في الفياضيّة، وبحضور الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي، وحشد من المسؤولين، والدبلوماسييّن ليؤكد على أهميّة المؤسسة البرلمانيّة في حماية الديموقراطيّة اللبنانيّة.
حتى أن الرئيس برّي، وعلى عتبة الأول من آب، قال كلاماً صريحاً أمام جمع من الإعلامييّن حول دور المجلس، إن لجهة التشريع للتفاهم مع صندوق النقد الدولي، أو لجهة انتخاب رئيس للجمهوريّة.
ولا يمكن ـ في هذا المجال تحديداً ـ التقليل من حركة السفراء الذين لهم “في كلّ عرس قرص”. إنهم يثمّنون عالياً دور المجلس، خصوصاً في هذه المرحلة المفصليّة. ويبقى السؤال: هل قول بعضهم ينسجم مع الفعل؟ وهل من فعل حقيقي لدعم المجلس كي يقوم بدوره على أكمل وجه، ويؤدي قسطه للعلى في زمن الاستحقاقات والتحولات الكبرى التي يشهدها لبنان والمنطقة؟
قد يشتم من هذا، شيء من التشكيك، وهو ليس في محلّه، لأن لبنان ليس العراق، والأزمات هنا تتوالد، وتتكاثر، وتنمو، وتتفاعل في مساحات ومتاهات مختلفة ربما عن تلك التي يشهدها العراق، فضلاً عن أن ساحة النجمة عندنا محصنّة برئيس صاحب خبرة، وفطنة، ودرايّة، يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يدوّر الزوايا الحادة، رغم أن التجربة التي خاضها مع البرلمان الجديد خلال جلسة التشريع الأولى، شابها التباسات كبرى تحت نظر وسمع السفيرة الأميركيّة التي كانت حاضرة، ومنتبهة لكل شاردة وواردة.
بعض السفراء الذي ينشط في “المطبخ الرئاسي” هذه الأيام له رأي، من عناوينه:
- إن الديموقراطيّة في لبنان، مجرّد وجهة نظر، ثوبها فضفاض مفصّل على قياس الزعامات، والمذهبيات، والفئويات، وليس على قياس الدستور، والقوانين النافذة، ولا على قياس النظام الذي يفترض به أن يحمي الوطن من الطفرات التي تطيح بالتوازنات الدقيقة والحساسة، وتسبب جروحاً وقروحاً بعضها قد يعتمل في جسمه كلّه، ويسبب له مضاعفات قاتلة.
- إن المجلس النيابي الجديد يعكس التشرذم. لا أكثرية موصوفة، وأقليّة فاعلة. لا خطّ بياني واضح سوى شعارات و”شعبويات”. ولا عمود فقري يمكن الركون اليه، ويشكّل المحور، ونقطة الارتكاز، بل ارتجال، و”شغل على القطعة”، وتنافس بين “أولاد الحارة” حيث يحاول كل تكتل أن يثبت حضوره، وشطارته تحت الأضواء، وعلى مسرح الإعلام.
- إن “القابلة” الدوليّة التي شاركت في الانتخابات علناً، سواء من قبل سفرائها، أو إعلامها، أو مخابراتها، أو دولاراتها، كانت مارقة. شجّعت، وأصرّت على مقولة “الانتخابات حتما”، ورفعت شعارات التغيير، وبرعت في نشر الدعاية المغرضة، تارة لجهة القول بأنها مفصليّة جدّاً، وتقود حتماً نحو تغيير حقيقي، وتارة أخرى لجهة احتساب الأحجام والأوزان مسبقاً، وخريطة الطريق أيضاً، وما سيكون عليه المجلس النيابي الجديد من مزايا، وعطايا. وعندما ذاب الثلج، وبان المرج، وظهرت النتائج، اصفرّت الوجوه، وانقلبت الشفاه، وتحوّلت الأمنيات والتمنيات إلى خيبات: “ليس هذا الذي نريده. ليس هذا الوليد من ذاك الجنين المفترض”، وحفلت التقارير بالمآسي، والمراثي!
الآن، ومع تقدّم شهر آب، واقتراب المهلة الدستوريّة، هناك حقائق أربعة متداولة في البيئة الدبلوماسيّة الناشطة:
الأولى، أن مجلس النواب سيّد نفسه، وسيّد الاستحقاق، وسيّد الساحة السياسيّة.
لأول مرّة تلتقي غالبية السفراء مع الرئيس برّي في توصيفه الشهير “المجلس سيّد نفسه”. إنها ـ بنظرهم ـ الفرصة الذهبيّة المتاحة أمامه كي يقرن القول بالفعل.
الثانيّة، أنها الفرصة المؤاتية كي يؤكد المجلس على أنه فائض القوّة الوحيد في هذا البلد المتنوع المتعدد الثقافات، والولاءات. فائض القوّة بسيف الدستور، والقوانين المرعيّة الإجراء. وفائض القوّة العابر لكل الطوائف والمذاهب. ولا حجة له، أمام هذا الاستحقاق الدستوري المصيري، أن يقول: “ما خلّونا”. و”فائض القوّة فاض بخياراته علينا”، وهو المؤسسة الرئيسيّة في تركيبة النظام البرلماني اللبناني، المؤتمنة على الاستحقاق إعداداً وتنفيذاً وإخراجاً. الامتحان، هو امتحانه أولاً، وأخيراً، فإما يُكرم، ويُصان، أو يُدان، ويُهان.
الثالثة، حتى الآن – ومن منظار بعض السفراء ـ هناك تلهّي بالقشور، من نوع: “من يكون الرئيس؟ ما هو إسمه، وأصله، وفصله؟ ولأي جهة ينتمي؟”، في حين أن التحديات التي يطفح بها لبنان تفرض البحث عن المؤهلات، عن الرصيد الذي يمتلكه أي مرشح، والقادر من خلاله، في حال وصوله، أن يشكل رافعة فعليّة جديّة، لانتشال البلد من هواته السحيقة.
صحيح أن النظام ليس بنظام رئاسي كي يقدّم المرشح للرئاسة برنامج عمل يصار على أساسه الاختيار، ولكن الصحيح أيضاً أن المرحلة تتطلب إبراز الكفاءات، والمؤهلات، قبل التسطح عند الأسماء.
الرابعة، حتى الساعة، وعلى الرغم من كل الاجتماعات، واللقاءات، والكولسات، والهندسات، لا شيء يوحي بأن المجلس النيابي قادر على انتخاب رئيس صنع في لبنان. الكل عينه على الخارج. الكل ينتظر الوحي، والكل عينه على المسارين: مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ومسار الغاز وترسيم الحدود، وما قد ينبلج عنهما من خيارات أو مفاجآت، تحدد من هو الرئيس الذي يفترض تأمين وصوله الى قصر بعبدا عبر ساحة النجمة!