عاشوراء و”المدينة الفاضلة”!

/ خلود شحادة /

أعلام ورايات عليها عبارات “تلبية النداء”. لباس أسود يتّشح به الناس، وتجمعات في مختلف المناطق والأحياء والقرى، تتلى فيها الأحداث التي جرت في كربلاء، مع رثاء للشهداء الذين سقطوا في تلك المعركة يوم العاشر من شهر محرم الهجري، وهي معركة يضعها الشيعة تحت عنوان “انتصار الدم على السيف”.
المشهد مألوف مع بداية رأس السنة الهجرية، 1 محرم، في لبنان، وكل الدول التي تضم مواطنين شيعة.

إحياء “الأيام العاشورائية”، يعتبر عند الشيعة من “المقدسات”، حيث تُختتم هذه الأيام بمسيرة يوم العاشر من محرم، أي تاريخ استشهاد الإمام الحسين وآل بيته.

يعتبر الشيعة، أن إحياء هذه الذكرى، رغم مرور ما يزيد عن 1400 سنة، هو الوسيلة الأساس لتثبيت المظلومية في ذاكرة الأجيال المتعاقبة.

ليس للمسألة، فقهياً، بُعدٌ مذهبي. هي أمثولة تاريخية للتضحية والفداء، يتّكئ عليها الشيعة للإصلاح والثورة على الظلم.

النقاش في سلوكيات الشيعة خلال “الأيام العاشورائية”، ليس جديداً، وإنما يمتد في التاريخ، خصوصاً بعد أن دخلت عليها أعراف وتقاليد وممارسات، وقد جرى التخلّص من معظم تلك السلوكيات تباعاً مع الزمن، وإن بقي بعضها على نطاق ضيّق.

وعبر التاريخ، مرّت ذكرى عاشوراء بظروف أثّرت فيها وتأثّرت.. لكن الذكرى تعبر منذ سنوات، في لبنان، ظروفاً ومتغيّرات سياسية واجتماعية وحياتية، تترك أثراً في النقاشات التي توسّعت هذا العام بمحاذاة “المجالس العاشورائية”.

أحاديث تطفو على السطح عن البذخ والإنفاق، ودعوات للامتثال بأخلاق أهل البيت، بدلاً من إحياء ذكراهم.
يُعَبّر عن عاشوراء، بأنها العَبرة والعِبرة، أما العبرة فهي لتهذيب النفس والتذكير بعظمة المصاب. وأما العِبرة فهي للاتعاظ بخطى الحسين الذي ثار على الفساد والظلم حتى قضى شهيداً.

هذا العام، أخذ هذا النقاش حيزاً واسعاً، ربطاً بالفساد المستشري في لبنان منذ عقود، والذي دفع اللبنانيون ثمنه في الأعوام الأربعة الأخيرة، مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والضائقة المعيشية على المواطنين.

هذه التطورات، دفعت ببعض اللبنانيين عامة، والشيعة خصوصاً، الى تحميل عاشوراء مسؤولية تهذيب المجتمع والأفراد.
لا شك بأنه يفترض بكل من يحيي هذه الشعائر الدينية، أن يتخذ من سلوك الحسين مسلكاً في حياته، ولكن ما هو غير منطقي، السعي لإحلال “المدينة الفاضلة” من خلال عاشوراء.

من منّا لا تأتيه الأحلام الوردية؟ تلك التي تجعلنا نرى العالم يوماً ما عادلاَ، يخلو من الظلم والأنانية والأذى والمرض والموت؟
من منّا لا يتمنى العيش في مدينة فاضلة؟ حتى المحتكر والقاتل والظالم.. يتمنون لو أن الأرض تمتلئ قسطاً وعدلاً!
ولكن أين هذه الأحلام من حقيقة الحياة؟

“كيف يحضر المجلس الحسيني محتكر؟ كيف يتبرع لمجلس حسيني آكل مال اليتيم؟ كيف يبكي على الحسين من يؤذي كل يوم أقاربه وجيرانه؟ وكيف يرفع كفيه للدعاء الظالم المتجبر؟”.

في كل الأديان السماوية، باب التوبة مفتوح الى حين احتضار الروح. أما الشيعة، فيعتبرون أن السيرة الحسينية باب للتوبة، حباً بالحسين.
فالمجالس العاشورائية للجميع، وكما لا يمكنك طرد “المحتكر” و”الظالم” والمؤذي عن باب أي مسجد أو كنيسة، لا يمكنك بالتالي طرده عن باب “الحسينية”، وبالتالي تسقط هذه التساؤلات.

سيكون من الظلم نكران كل ما قدمته عاشوراء، على الأقل، للشيعة، وهم الذين يجاهرون بأن عقيدة الجهاد ضد التكفيريين وضد العدو الاسرائيلي، ما هي الا امتداد لما جرى في كربلاء، ولذا ينسبون فرحة تحرير الجنوب إلى الخط العاشورائي.
إذاً، بنظر الشيعة، لولا عاشوراء لما جاهد الناس وما تحررت الأرض!

الكثير من الولائم، والمساعدات المالية والعينية للفقراء والمحتاجين تقدم “على حب الحسين”، وهو ما يقي الكثيرين شر الجوع والفقر المدقع الذي هو نتاج حال اللاعدل التي يعيشها العالم كله!

لمَ لا يثوروا، كما الحسين، بوجه الطواغيت والفاسدين؟

سؤال منطقي، ولكن الإجابة عنه تبقى تدور في دائرة مغلقة، فالسائل إذا كان منزعجاً ومتضرراً من الفساد، لمَ لا يفتتح الثورة ضد الظلم ويبادر هو؟ لمَ ينتظر من “رواد المجالس” و”محيي الشعائر” شق طريق الثورة؟ فمبدأ الثورة بوجه الظلم الذي اعتمده الحسين ليس حكراً على طائفة أو مذهب أو دين، إنما هو منهج لكل الأحرار، أسوة ما قام به العديد من الشخصيات العالمية التي عرفت بمناهضتها للظلم في كل أصقاع الأرض.

لِمَ يُسرفون في “الزينة العاشورائية” وإحياء المجالس؟

في بلد كلبنان، تتعدد فيه المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية وغيرها، الجميع يمارس حريته في إقامة تلك الشعائر ومظاهر الاحتفال (بوجهيه الحزين والفرح).
النقاش هنا ليس في الاتجاه الديني، إنما الحديث يتمحور حول حق الفرد في ممارسة حريته الدينية طالما لم يتعدَّ فيها على حرية الآخر بأي تفصيل!

يمكن لعاشوراء أن تكون وسيلة لتهذيب النفس، وتأنيب الضمير الفردي، أو حتى الجماعي على الصعيد الضيق، فعشرة ايام من أصل 365 يوماً لا تكفي لبناء “المدينة الفاضلة”، ولكنها حتماً باب يُفتح أمام الناس أفقاً لردع الظلم والثورة بوجه كل الطواغيت.