التحقيق مع المطران: الكنيسة فوق القانون؟

/ علاء حسن /

اعتادت الدول على رسم سياسات واضحة تجاه القضايا الكبرى، والتعامل معها بحزم ومساواة، لكونها قضايا تمسّ السيادة الوطنية وصورة الدولة قبل كل شيء، إلا أنّ من عجائب لبنان الكثيرة فقدان المعيار في التعامل مع المسائل الخلافية، فضلاً عن أن تكون خلافية في الأساس.

في هذا السياق، تحديداً، أصبح موضوع التحقيق مع المطران موسى الحاج، العائد من الأراضي الفلسطينية المحتلة وهو يحمل مبالغ مالية كبيرة تقارب النصف مليون دولار، حديث البلد ومحور تجاذباته، وكأن البلد لم يكن ينقصه إلا هذا الحدث لينخر أكثر في الشروخ العمودية والأفقية التي يعاني منها.

كالمعتاد، انقسم الرأي العام، وقبله السياسيون، بين مؤيد لما يقوم به المطران الحاج وبين معارض له ومدين له. وربطاً، بين مؤيد لتوقيفه ومصادرة الأموال التي كانت بحوزته، وبين مستنكر للأمر بشدة، وصولاً حد الطلب عزل القاضي فادي عقيقي، بل وتوقيفه!

وإذا كان الرأي المعارض لأنشطة المطران الحاج والمؤيد لتوقيفه مفهوماً لناحية الزاوية الوطنية التي ينظر بها هذا الفريق وعدائه للكيان الصهيوني ـ الأمر الذي أصبح وجهة نظر ـ فإن تأييد فعل المطران وحمايته وإصدار البيان الذي شكل غطاءً له، أمر مفهوم في الوقت عينه، ذلك أن بكركي لديها مجموعة من الاعتبارات العابرة للحدود، والمرتفعة عن سقف القانون الوطني وتعمل على أساسه منذ البداية، ولم تعمل على مراجعة مفاهيمها ولا غيرت من سلوكها، الأمر الذي يرفع الاستهجان عما تقوم به، بل قد يكون الاستغراب لماذا قررت أجهزة الدولة التحقيق مع المطران هذه المرة ووفق أي اعتبارات سياسية، أم أن هناك معلومات توافرت لديها بخصوص عملاء يستفيدون من حركة المطران إلى فلسطين المحتلة؟

فبكركي ترى أن المسيحيين في الشرق هم من رعاياها أينما كانوا، وعليها واجب الاعتناء بهم وخدمتهم وإيصال الرعاية الكنسية لهم، حتى لو كانوا مذنبين بأشد الذنوب سوءاً، وهي العمالة للعدو وقتل بني أوطانهم، وهي تشترك في هذا الأمر مع مشيخة عقل طائفة الدروز التي لم ينقطع تواصلها مع الدروز في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1948 ووفق المعيار ذاته.

لهذا، عندما كرّمت الكنيسة العميل المقتول عقل هاشم، خاطبها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في ذلك الوقت وأطلق مقولته الشهيرة حول أن: “العملاء لا دين لهم ولا طائفة لهم …”، لكن من دون أن يعني ذلك شيئاً لبكركي التي أكملت مسارها كما تراه هي، حتى أنها أقامت قداس لكبير العملاء انطوان لحد العام 2015 وعبر المطران موسى الحاج نفسه.

ثم أن الكنيسة ترى نفسها فوق القانون، من زاوية انتمائها التسلسلي إلى الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان. وعليه، تتوقع من الدولة التعامل معها كما تعامل البعثات الديبلوماسية لناحية الحصانة الممنوحة لهم، وفي الوقت نفسه يحق لها التدخل في شؤون الدولة اللبنانية كونها ممثلة الكرسي الرسولي في لبنان، وعلى الجميع طاعتها وعدم مخالفة توجهاتها.

إلى هذا الحد تبقى المشكلة الأساس هي في فقدان المعايير حول التعامل مع القضايا الكبرى والخلافية، وغياب التعاريف الدقيقة عن مسائل لا يمكن التغاضي عن بقاء ضبابيتها، ولا تستقيم الأمور بالتلاعب بها تحت عناوين تحمل معانٍ مقدسة.

لكن اللافت في الموضوع، أن جميع القضايا تصبح قابلة للتغيير عند اصطدامها بالحصانة، فكيف يمكن القبول ببيان بكركي حول ضرورة عزل القاضي عقيقي من منصبه فقط لتجرؤه على إصدار أمر التحقيق مع المطران الحاج، بينما لا يحق للآخرين طلب اعفاء القاضي العدلي في قضية مرفأ بيروت؟ ولماذا يُدان المطالِب هناك ويُقتل في الشوارع، أما هنا فيصبح أمراً طبيعياً؟!

ثم، هل إن الاستثناء الذي تطالب به بكركي وتعمل وفقه، ينطبق عليها فقط؟ أم يشمل اللبنانيين المسيحيين أيضاً؟ وبالتالي، هل نحن أمام عملية تطبيع تمارسها الكنيسة من البوابة الرعوية، لتشمل عامة الناس؟

وهل الاستثناء بالصعود فوق قوانين الدولة ومؤسسساتها مختص بالكنيسة أيضاً، أم يسري على المرجعيات الدينية الأخرى كافة، فيتحول اللبوس الديني إلى سبب للنزاعات الجديدة؟!

أخيراً، فإن ما حصل في اليومين الماضيين ليس تطبيقاً للقانون، وإلا لما كانت أسفار المطران لتصبح متكررة، وليست لعبة سياسية يتصارع فيها المتنازعون لكسب النقاط في معارك أكبر بقدر ما هي عملية غياب وتغييب للمعايير، لتصبح المصالح الفئوية أولى من المصالح العامة، حتى ولو كانت هذه المصالح الفئوية على حساب دماء آلاف الشهداء الذين قدموا دماءهم قرباناً لهذا الوطن ليصبح حراً وعزيزاً، يقف اليوم بكل قوة بوجه الإسرائيلي ليمنعه من سرقة ثروته ومستقبل أبنائه.