إيمانويل ماكرون

بين فرنسا و”صندوق النقد”.. “مقاربة” لمواصفات “الرئيس”!

/ جورج علم /

بين باريس، وصندوق النقد الدولي، كلام هامس، لكنه رصين، ويستند إلى معطيات، ويؤشر إلى استحقاقات داهمة.

لا يمكن القول أن فرنسا في ساعة تخلّ عن لبنان، وأن الرئيس إيمانويل ماكرون قد تعب، وأدركه اليأس، لكن هناك ظروفاً قد استجدت، وفرضت أولوياتها على أجندته السياسيّة، منها: الحرب في أوكرانيا، أزمة الغذاء العالميّة، أزمة الطاقة، خيارات أوروبا الجديدة تجاه روسيا، التحالفات والاصطفافات الدوليّة الناشطة حاليّاً على خلفيات اقتصاديّة وعسكريّة، فضلاً عن التحديات الداخليّة الضاغطة والتي لا يمكن التقليل من شأنها، ذلك أن الرئيس لم يتمكن من الفوز خلال الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة، ولم يتمكن حزبه من الفوز بالغالبية المطلقة في الانتخابات النيابيّة، وهذا ما حمله على اعتماد نوع من “المساكنة السياسيّة” داخل حكومته، لتمرير طموحاته العملانيّة عبر الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة، إلاّ أن المستجدات الضاغطة لم تمنعه من متابعة الملف اللبناني بتطوراته، وتداعياته، انطلاقا من ثابتتين:

الأولى، إن ما بدأه تجاه لبنان اعتبارا من السادس من آب، وبعد مرور يومين فقط على انفجار مرفأ بيروت، لم يصبح من ماضي النسيان، بل تحوّل إلى خطة، وبرنامج عمل، وخريطة طريق واضحة المعالم، تشارك فيها عواصم دول شقيقة وصديقة تلتقي حول الأهداف المرسومة.

الثانية، إن لبنان حاجة فرنسيّة، أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً في ظلّ التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، ومنطقة الشرق الأوسط تحديداً.

أما صندوق النقد الدولي، فقد نجح في إرساء الخطوة الأولى من مسافة الألف ميل. لم يتمكن بعد من الإمساك جيداً بكامل مفاصل الملف اللبناني، لكنه نجح على الأقل في التعريف عن شروطه ومطالبه، ونجح بمحاولات التسويق لها، من خلال فرق العمل التي تدير شبكة واسعة من المحادثات، والاتصالات، وتبادل وجهات النظر حول كيفيّة التوفيق ما بين الحاجيّات والإمكانات.

لم يتقدم الصندوق بصفة الناخب الأول الفاعل والمؤثر في الاستحقاق الرئاسي. لم يدخل من الباب بصفة “قاضي الأمور المستعجلة” للبت بالأسباب المعرقلة، والظروف المشاكسة. لكنه تمكّن من إثبات الدور والحضور من خلال:

أولاً، الإقرار اللبناني الرسمي، العلني والضمني، بأهمية الحاجة إليه، لتلافي الارتطام الكبير، والخروج من النفق.

ثانياً، المدى الذي بلغته المفاوضات التي يديرها نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي على رأس وفد من الخبراء، وأهل الاختصاص.

ثالثاً، غياب أي بديل عن الصندوق، وأي مبادر منقذ، وأي جهة وازنة قادرة ومصممة على إنفاق المليارات لتغطية الثغرات، تمهيداً لانتشال البلد من الغرق.

رابعاً، وجود “لوبي” دولي شارك في العديد من المؤتمرات التي دعت اليها فرنسا، تباعاً، لمساعدة لبنان ماليّاً، واقتصاديّاً، وسياسيّاً. “لوبي” يتحكّم اليوم بسياسة الصندوق المتبعة تجاه لبنان، وهي سياسة هادفة مصممة، بعيدة عن “الشعبويّة”، والارتجال.

يبقى القول بأن “الكلام الهامس” ما بين باريس و”الصندوق”، ليس من النوع الذي يستلطفه الكثير من المرشحين للرئاسة الأولى، وذلك لاعتبارات كثيرة، منها:

  • أنه يعيد تصويب البوصلة. ذلك أن الأزمة في لبنان ليست أزمة أسماء، بل مؤهلات. وطن فقد الكثير من مؤهلاته، دخل غرفة العناية المركّزة. بحاجة إلى إنقاذ، وحوار، وتفاهم داخلي، وتسوية، وتوافق جديد حول النظام، والدور، والوظيفة.. وبحاجة إلى فريق عمل إنقاذي برئاسة رئيس رؤيويّ، قادر على الالتزام بخريطة الطريق، وإنجاز الخطوات الانقاذيّة المطلوبة في مواعيدها.
  • إن الاستحقاقات التي جرت، وأبرزها الانتخابات النيابية، لم تحدث صدمة إيجابيّة لدى المجموعة الدولية لدعم لبنان. لم تأت بنتائج على مستوى الطموحات. لم تحدث أي تغيير جدّي يمكن البناء عليه، بل زادت الأمور تفاقماً، والدليل أن الانهيار بدأ يلامس مؤسسات الدولة والنظام من خلال إضراب موظفي القطاع العام، وحال اللااستقرار الذي يسود القطاعات الأمنيّة، والصحيّة، والتربويّة، والخدماتيّة.
  • إن التجارب مع الطاقم السياسي الحاكم والمتحكّم بمفاصل البلاد، لم تكن ناجحة. هذا الطاقم قد أفشل المبادرة الفرنسيّة التي طرحها الرئيس ماكرون في قصر الصنوبر، ووافق عليها جميع من تحلّق حول تلك الطاولة، بمن فيهم “حزب الله” الذي وافق على 90 بالمئة من بنودها، لكن بقيت المبادرة أسيرة القصر، ولم تخرج الى العلن.

وأفشل هذا الطاقم كل القرارات التي اتخذتها المؤتمرات الدوليّة، التي دعت إليها فرنسا لمساعدة لبنان، لأنه أصرّ على أن يستفيد من الأموال من دون أن يلتزم بتحقيق الإصلاحات. لذلك فإن القرار المتخذ، سواء من جانب الفرنسييّن، أو من جانب الصندوق، هو اختيار طاقم سياسي إنقاذي برئاسة رئيس للجمهورية، يحظى بالمواصفات المطلوبة من قبل المجموعة الدولية لدعم لبنان والتي تمسك بالمفاصل الحيويّة للصندوق.

ويبقى أن عامل الوقت مهمّ جداً. هناك أسابيع قليلة فاصلة عن الموعد الدستوري للبدء بتحديد جلسة لانتخاب رئيس، وهي أسابيع حاسمة لجهة معرفة مصير الحكومة، وهل من طاقم وزاري جديد، أم الاستمرار في تصريف الأعمال. ومصير ملف ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل، وهل من اتفاق، أم من تصعيد؟ ومعرفة مصير مفاوضات فيينا النوويّة، وهل من اتفاق أم من تصعيد؟ ومعرفة التوجهات الجديدة في الشرق الأوسط، بعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى كلّ من الرياض، وتل أبيب، ورام الله، والمتغيرات المرتقبة، إن على مستوى التحالفات، أو المسارات…

وآخر الكلام أن الاستحقاق الرئاسي لا يمكن أن ينجز إلاّ من خلال تسويّة، قد تكون مقبولة، ومرحّب بها إذا ما تداعى اللبنانيون إلى الحوار، والتفاهم في ما بينهم حول كيفيّة إنقاذ وطنهم ـ وهذا يبدو من سابع المستحيلات ـ أو انتظار “تسويّة خارجيّة”، من أبرز “محرّكيها” لغاية الآن، فرنسا، وصندوق النقد الدولي…