العودة الأميركيّة.. والمواعيد الدستوريّة: ماذا حمل هوكشتاين؟  

/ جورج علم /

كانت “الزّفة” في بيروت، فيما “العرس” في تل أبيب!

كان هنا الأميركي آموس هوكشتاين يوزّع إبتساماته على “المرحّبين”. فيما كان هناك رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، ورئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين، يبحثان مشروع تزويد أوروبا بـ”غاز المتوسط”.

قالتها فون دير لاين صريحة أمام طلاب جامعة بن غوريون: “استخدم الكرملين اعتمادنا على الوقود الأحفوري الروسي لإبتزازنا منذ بداية الحرب في أوكرانيا، فقطعت روسيا عمداً إمدادات الغاز عن بولندا، وبلغاريا، وفنلندا، والشركات الهولنديّة، والشركات الدنماركيّة، ردّاً على دعمنا لأوكرانيا”.

أضافت: “إننا بحاجة إلى غاز شرق المتوسط، إننا هنا لدعم مشروع إيست ـ ميد”.

يُفهم من هذا الكلام، أن احتدام المعارك في الخاصرة الأوروبيّة، قد بلغ مضارب الشرق الأوسط، وأن قوافل التداعيات المكلفة بدأت تحطّ رحالها في ساحات المنطقة، والدليل هذا التبدل الملحوظ في الخطط والاستراتيجيات، والإقبال الكثيف غير المسبوق نحو العواصم الإقليميّة بحثاً عن “رمق يروي غليل الضيف في عزّ لهيب الصيف”!

فجأة يتخلّى الرئيس جو بايدن عن كبريائه، ويخلع ثوب العنجهيّة، ليرتدي ملاءة التواضع، ويقرّر زيارة المملكة العربيّة السعوديّة في الوقت الذي اختاره له الملك سلمان بن عبد العزيز.

كان قبل عام منهمكاً بالإنكفاء، و”إدارة الظهر”، والإنسحاب من التحالف الدولي في اليمن، واستعادة “القبّة الحديديّة”، ورفع الغطاء الجوّي عن الأمن في الخليج، والإنصراف إلى “ليالي الأنس في فيينا” لخطب الودّ، والتفاهم على العودة الى الإتفاق النووي، مقابل رفع العقوبات، وتقديم التسهيلات لقوافل الناقلات…

الآن تغيّر المزاج، وأسلوب العلاج. ضرب الرئيس فلاديمير بوتين على الطاولة، دخل أوكرانيا، وضع الخطوط الحمر أمام نهم الأطلسي، تحكم بمفاصل الغاز، والنفط، بدّل الأولويات، نسف الاستراتيجيات، وضع العالم أمام حاجات ثلاث: الغاز، والقمح، والأمن الإجتماعي.

إستيقظت أوروبا لترى أن حائط برلين قد انتقل الى كييف، والواجهة الأوكرانيّة قد تحوّلت إلى خط تماس، والمواجهات الى حروب استنزاف مكلفة، و”السند” الأميركي إلى بائع متجوّل يوزّع “العقوبات”، حتى ضاق الفضاء، وظهرت مؤشرات الإختناق في أكثر من بلد صديق وحليف.

لقد بدّل البركان الأوكراني الثائر، أولويات العالم، ويوميات الشعوب. الإدارة الأميركيّة أمام تحوّل إستراتيجي. الكونغرس منتفض، يرفض دبلوماسيّة الإستجداء. “اللوبي” الصهيوني منصرف إلى تأليب الرأي العام، حجته أن “السلاح النووي دخل ميدان السباق في الشرق الأوسط”. المواطن الاميركي منهمك بتقلبات أسعار السلع الغذائيّة، وغالون البنزين، وغاز المنزل، والفلتان الأمني، والضحايا البريئة التي تسقط نتيجة فوضى السلاح، فيما الإتحاد الأوروبي يعوّل على فائض القوّة، وفائض الإقتصاد، وفائض الدعم، ليكتشف بأن النواقص والثغرات، قد تفوّقت على الحسابات والتوقعات، وأن العقوبات قد تحوّلت إلى سهام جارحة تستنزف جسمه الطريّ.

أن يشدّ الرئيس الأميركي رحاله، ومعه الحليف الأوروبي، بإتجاه الشرق الأوسط، فهذا يعني الحاجة، والضرورة، الى تعويض النقص، والبحث عن البدائل. لكن الحسابات هنا غير حسابات، خرج الركب الخليجي من القطار الأميركي، لجم خيله، وحدد موقعه، ووسّع دائرة إنفتاحه من آسيا، إلى أوروبا، إلى إفريقيأ، ومن “مجموعة السبع”، إلى “مجموعة العشرين”، إلى سائر المجموعات، والمنتديات الإقتصاديّة العالميّة، إلى التحديث والتطوير الداخلي في شتى الميادين، إلى الإعتماد على النفس، من منطلق التروّي، والحكمة، والقدرة على التغيير.

يريد الغرب الغاز والنفط. ولبلوغ ذلك عليه بناء جدار الثقة أولاً، وهنا تكمن المشكلة. لقد خلّفت سياسة التخلّي، و”إدارة الظهر”، جروحاً عميقة لا يمكن أن تندمل بسرعة، ورسخت قناعة عميقة بأن “التحالفات تمليها المصالح المشتركة، وتنهيها المصالح المرتبكة”. والعودة الى شقع مداميك البنيان المتداعي لا بدّ من أن تمرّ عبر  بوابات ثلاثة محكمة:

  • موقف، وموقع الغرب، الأميركي ـ الأوروبي، من “التمدد” الإيراني أفقيا، وعموديأ في المنطقة.
  • موقف، وموقع الغرب، الأميركي ـ الأوروبي من “حل الدولتين”، ولذلك قرر بايدن زيارة تل أبيب، ورام الله قبل وصوله إلى الرياض.
  • موقف، وموقع الغرب، الأميركي ـ الأوروبي من أزمة الطاقة والغذاء في العالم، وسبل المواجهة، مع الحرص السعودي ـ الخليجي على عدم الدخول في سياسات المحاور.

إن التحولات الدوليّة بإتجاه المنطقة بدأت تترك ظلالها على الواقع اللبناني. وإن اللقاء ـ المفتاح الذي عقده هوكشتاين في بيروت كان مع السفيرة الفرنسيّة في قصر الصنوبر، والذي حضّرت له بزيارة الضاحية قبل أربع وعشرين ساعة من حصوله.

يقول دبلوماسي متابع: “لم يأت هوكشتاين مفاوضاً، بل مبادراً. وما جاء ليسمع، بل لينصح. يعرف تماماً المقرّات، والممرات، والمرجعيات، وملمّ بتفاصيل الخبريات وكشف الحسابات. كان واضحاً، قال: لم يعد من ترف للوقت أمام اللبنانييّن، ولا مكان للرؤوس المتورّمة، والحسابات الضيقة في زمن التحولات الكبرى”.

برأيه “غادر ليعود، وما سيعود به يدخل حكماً في صلب ما يرسم للمنطقة من خيارات”.

ما أراد هوكشتاين تأكيده من خلال زيارته قصر الصنوبر، “أن التنسيق الأميركي ـ الفرنسي قائم، والتنسيق الفرنسي مع سائر المكونات اللبنانية قائم، وبوضوح، وهناك أجندات خفيّة ستتظّهر أولوياتها، ومواعيدها، بالتزامن مع خريطة الاستحقاقات الدستورية اللبنانية، والعقدة الأساس أن لا شيء محسوماً بعد حول مستقبل العلاقات الأميركيّة ـ السعوديّة، والأوروبيّة ـ الشرق أوسطيّة. ولبنان الصيغة، والتنوع الثقافي ـ الإجتماعي، جزء من المجرّة العربيّة ـ الخليجيّة، ولا يمكن أن يكون جرماً مكسوفاً، تائهاً في مدار مجهول، لأنه حاجة دوليّة، وواجهة حضاريّة، وضرورة إقليميّة”.