ملف الترسيم.. وحسابات الإقليم

/ جورج علم /

غرّدت السفيرة الأميركيّة دوروثي شيا يوماً: “حيث هناك إرادة، هناك وسيلة”.

  • هل هناك إرادة؟
  • برز شبه إجماع على استدعاء الوسيط الأميركي. لم ينبر صوت معارض. الجميع لاذ بالصمت، إما عن إقتناع، أو عن عدم الرغبة في وضع العصي في الدواليب.

ما حصل، ليس بالعادي، ولا يمكن التقليل من أبعاده، وخلفياته، ذلك أن الإستعانة بالوسيط الأميركي تعني:

أولاً، إبعاد جهة إقليميّة نافذة عن ملف الترسيم، وحتى لا تتحوّل المنطقة المتنازع عليها الى ورقة في يدها توظّفها في صراعها المفتوح مع إسرائيل.

ثانيّاً، الرغبة، والإصرار على الحل الدبلوماسي، والإبتعاد قدر الممكن والمستطاع عن المواجهات العسكريّة، والحروب المدمّرة.

ثالثاً، الاقتناع المطلق لدى الجانب اللبناني، بأن الولايات المتحدة، وحدها القادرة على معالجة هذا الملف إذا ما لعبت دور الوسيط العادل – النزيه، وبالتالي هي صاحبة حضور، ومعرفة، وإلمام بالتفاصيل، كونها كانت المبادرة، عندما إقترحت السفيرة مورا كونيللي (2010 – 2012)، على المسؤولين ما يجب عمله للمساعدة في حصول لبنان على نفطه وغازه. كما بدأت مشاورات مكثّفة مع الدوائر المعنيّة في وزارة الخارجيّة الأميركيّة حول هذا الملف.

وتعود نقطة الإنطلاق الى تاريخ 18 ـ 8 ـ 2011، عندما تقدّم لبنان بوثائق وإحداثيات الى الأمانة العامة للأمم المتحدة، تثبت بأن المنطقة المتنازع عليها هي بحدود 860 كيلومتراً مربعاً. وإنطلقت السفيرة كونيللي في مساعيها على هذا الأساس، وكانت بداية مهمّة الموفد الأميركي فريدريك هوف الذي إقترح يومها حلاّ وسطاً، بحيث تكون حصّة لبنان 55 بالمئة من المساحة المتنازع عليها، مقابل 45 بالمئة لإسرائيل، إلاّ أن الجواب اللبناني كان معلّلا بالرفض.

وأعادت السفيرة اليزابيت ريتشارد إحياء الفكرة المتعلّقة بـ”خط هوف” إستباقاً للزيارة التي قام بها وزير الخارجيّة الأميركي السابق مايك بومبيو الى بيروت في آذار 2019. يومها كانت الإدارة الأميركيّة تفكّر جديّاً، وبالتعاون مع إسرائيل، بإقامة مشروع “غاز شرق المتوسط”، والهادف الى مدّ الأسواق الأوروبيّة بالغاز الطبيعي.

وكان بومبيو قبل وصوله الى بيروت قد إجتمع مع كلّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي (السابق) بنيامين نتنياهو، والرئيس القبرصي نيكوس أناستاسياس، ورئيس الوزراء اليوناني (السابق) اليكسيس تسيبيراس، وتشاور معهم “بتعاون إقليمي، بإشراف وتشجيع الولايات المتحدة، بين إسرائيل، وقبرص، واليونان”.

إنطلقت المفاوضات غير المباشرة في الناقورة، في 14 تشرين الأول 2010. وبدأت الوساطة الأميركيّة مع تولّي الرئيس سعد الحريري رئاسة الوزراء، وعيّن الأخير آنذاك مستشاره للسياسة الخارجيّة الشهيد محمد شطح، وقد وصفه فريدريك هوف ـ في مقال له ـ بـ”الودود والصارم في الدفاع عن حقوق لبنان”.

وذكر هوف أن شطح اقترح توزيع عائدات النفط على “كل لبناني بالغ، لأن المنظومة الحاكمة ستتقاسمها بشكل فظ”. ويقول هوف “ربما هذا ما أدى الى اغتياله”!

بعد الحريري تولّى الرئيس نجيب ميقاتي رئاسة الحكومة، وعيّن جو عيسى الخوري في إدارة الملف، ويقول عنه هوف “بأنه لم يكن خبيراً في الخلافات البحريّة، لكنه كان محاوراً رائعا ساهم في وصول الوساطة إلى خواتيمها”.

لم يوضح هوف ما هي “الخواتيم” تحديدا! لكنه يعلّق على مهمّة آموس هوكشتاين في لبنان، والتي انتهت الى ما انتهت اليه الجولة الخامسة من المفاوضات، في مايو/ أيار من العام الماضي، حيث طرح “حلاّ وسطاً، وخطّاً متعرّجاً ما بين الخطين 29 و23، يحفظ حقوق لبنان بالكامل في حقل قانا، وحقوق إسرائيل بالكامل في حقل كاريش”.

  • من أين سيبدأ هوكشتاين؟
  • بعد أن أكمل جولته، في أيار من العام الماضي، على كبار المسؤولين وقائد الجيش، وقبل أن يحزم حقيبته عائداً الى واشنطن، غرّدت يومها السفيرة شيا قائلة: “حيث هناك إرادة، هناك وسيلة”.

وقبل الغوص في التفاصيل، لا بدّ من التوقف أمام المشهد الدولي ـ الإقليمي البالغ الخطورة والمحيط بـ”المهمّة المتعرّجة”:

  • الإتفاق النووي في إجازة مفتوحة، ومفاوضات فيينا شبه متوقفة الى موعد غير محدد. وعلاقة إيران مع الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، مأزومة، وقائمة على التحديات، والإصرار على تخصيب اليورانيوم بما يسمح لطهران امتلاك قنبلة ذريّة في غضون أسابيع…
  • العلاقة الإيرانيّة ـ الإسرائيليّة في توتر متصاعد، على وقع إتهامات متبادلة، وتحديات، وتهديدات مباشرة بمواجهات مدمّرة.
  • الأزمة الروسيّة ـ الأوكرانيّة، فتحت شهيّة الغرب على الغاز الطبيعي في المتوسط، وهو مطروح كبديل عن الغاز الروسي الى أوروبا، وإن من خلفيات مهمّة هوكشتاين تذليل العقبات أمام مشروع “غاز شرق المتوسط” (إيست ـ ميد)، لكي تبدأ عملية التنفيذ في أسرع وقت ممكن…
  • هل يقف لبنان حجر عثرة؟
  • ليس أمامه ترف الخيارات، ولا حتى ترف الوقت، وبالتالي عليه أن يعتمد دبلوماسيّة “الفن الممكن”، وإذا لم يبرع في المجالين، فإنه، والحالة هذه، يكون في طور التنازل عن هذا الملف الذي يمسكه راهناً بكلتا يديه، إلى طرف إقليمي يعرف كيف يوظّفه جيداً لخدمة مآربه، في مواجهته مع المحورالمقابل، ومع الغرب الذي له مصالحه، وطموحاته في الشرق الأوسط…