
| ريم هاني |
يخبر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي تفاخر، في وقت سابق، بأنّ عشرات الدول «تتذلّل» إليه لرفع التعرفات عنها، مساعديه، باستمرار بأنّه «من واجب» الحكومة الصينية طلب إجراء مكالمة معه، في حال أرادت التوصّل إلى حلّ حول الرسوم الجمركية المتبادلة بين أكبر اقتصادَين في العالم.
على أنّ « جمهورية الصين الشعبية»، التي قابلت رسوم ترامب بأخرى مماثلة، لا تبدو في «عجلة من أمرها» للتفاوض؛ بل هي تنتظر، على الأغلب، تنازلات إضافية من الإدارة الأميركية، على غرار الإعفاء الذي منحه رئيسها لبعض الأجهزة الإلكترونية، بما في ذلك الهواتف الذكية، والحواسيب المحمولة القادمة من الصين، بعد الرعب الذي بثّته رسومه في أوساط كبرى شركات التكنولوجيا، والمستهلكين الأميركيين. وفي حين أنّ بعض التخفيضات الجزئية للتعرفات الجمركية قد تكون مرجّحة في المستقبل، لكنّ إعادة «ضبط» العلاقات بين بكين وواشنطن أصبحت، بعد هذه الأحداث، أصعب من أيّ وقت مضى.
وفيما يراهن ترامب على تراجع الصين، إلا أن بعض مسؤولي إدارته يخشون أن تنتج من الحرب التجارية الناشئة بين البلدين، سيناريوات أسوأ، تتصاعد على إثرها الأحداث إلى أزمة أمن قومي، قد تضطرّ بكين إلى «تفعيل خطط غزو عسكري لتايوان»، فتتحوّل الحرب الناعمة القائمة إلى أخرى «خشنة»، وفق ما تقرأ «نيويورك تايمز». واستناداً إلى تلك السيناريوات، يجري «البنتاغون»، بحسب مصدر مطّلع على «الاستعدادات» تحدّث إلى الصحيفة، تقييماً لتأثير إمكانية «قطْع» الصين صادرات المعادن الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب بعض المكوّنات الحيوية المُستخدمة في أنظمة الأسلحة الأميركية. ويهدف التقييم إلى التأكد بشكل دقيق من الضرر الذي ستكون بكين قادرة على إلحاقه بقدرة واشنطن على «إنتاج أسلحة وذخائر معيّنة، وصيانتها».
لكنّ مخاوف المراقبين لا تتركّز فحسب على نتائج «حرب ترامب» الاقتصادية، بل أيضاً على تبعاتها الطويلة المدى في ما يتعلّق بشراكات واشنطن حول العالم، بعدما لم تَعُد هذه الأخيرة، على ما يبدو، شريكاً اقتصادياً، أو حتى أمنياً، موثوقاً به. وقد دفعت تلك المخاوف، الكاتب والمحلّل في «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان، إلى القول إنّه «من بين ردود الفعل الكثيرة التي تنتابني إزاء خطّة ترامب (الحزينة) حول إرضاخ العالم للتعرفات، هناك واحدة تراودني باستمرار، وهي أنّه إذا وظّفت مُهرّجين، فعليك أن تتوقّع سيركاً. ونحن يا رفاقي الأميركيين، قد استأجرنا مجموعة من المهرّجين».
وبعدما كرّر ترامب وكبار مسؤولي إدارته، أنّ واشنطن لن تتراجع عن «مبادئها الراسخة» إزاء التعرفات، إلا أن «الفوضى» التي أحدثتها سياسته في الأسواق، أجبرته على التوقّف قليلاً، «ونقض الكثير من تلك المبادئ»، حين أعلن، أخيراً، تعليق التعرفات على كل دول العالم، باستثناء الصين، لمدة 90 يوماً. وفي أعقاب الفوضى التي لم تستثنِ حتى الأسواق الأميركية، ومسارعة الأميركيين إلى بيع أسهمهم بأسعار منخفضة، جاءت رسالة ترامب إلى العالم، والصينيين، على الشكل التالي: «لن أتحمّل أيّ نوع من اللوم أو الانتقاد»، وفقاً لفريدمان، الذي يتابع: «لو أردنا تحويل هذه الرسالة إلى كتاب، لكان أفضل عنوان له هو: (فنُّ الصُّراخ)».
على أن الولايات المتحدة لم تخسر المال فقط، وفقاً للمصدر ذاته، بل «أطناناً من الثقة الثمينة التي ذهبت أدراجَ الرياح»، بعدما أرسلت، في الأسابيع القليلة الماضية، إلى أقرب أصدقائها، أي «الدول التي وقفت إلى جانبنا بعد أحداث الـ11 من أيلول، في العراق وأفغانستان»، رسالةً تقول لهم فيها إن «لا أحد منكم يختلف، بالنسبة إلينا، عن الصين أو روسيا»، وإنّه لن تكون هناك «معاملة خاصة لأيّ أحد»، بمن في ذلك «الأصدقاء وأفراد العائلة». ومن هنا، يتساءل فريدمان: «هل تعتقدون بأن هؤلاء الحلفاء السابقين، الذين كانوا يوماً مقرّبين، سيثقون مرّة أخرى بالولايات المتحدة؟ أو يوافقون على أن يكونوا في خندق واحد مع هذه الإدارة؟».
وفي المحصّلة، وضع ترامب، بلاده «في حرب خاسرة»، لأنّه «عندما يكون أمامك بلدٌ كبيرٌ مثل الصين، يضمّ 1.4 مليار نسمة، مع كل ما يمتلكه من مواهب وبنية تحتية ومدّخرات، فإن الطريقة الوحيدة للتفاوض معه هي من خلال الحفاظ على بعض النفوذ أثناء الجلوس إلى طاولة المفاوضات». أمّا أفضل طريقة لامتلاك ذلك «النفوذ»، فهي أن يحشد ترامب حلفاء بلاده «في جبهة موحّدة»، تشمل الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والبرازيل وفيتنام وكندا والمكسيك والهند وأستراليا وإندونيسيا، أي بمعنى أن يجعل «الصين تفاوض العالم بأسره».
لكن حصل عكس ذلك تماماً؛ إذ وضع ترامب، واشنطن في مواجهة العالم الصناعي بأكمله، والصين، في الوقت عينه. وصار واضحاً بالنسبة إلى بكين أنّ الرئيس الأميركي «لم يتراجع عن بعض الرسوم فحسب، بل أبعد حلفاءنا كثيراً عنّا، وأثبت أن كلامه لا يُعوَّل عليه»، إلى درجة أن «الكثير من الحلفاء قد لا يتحالفون مع أميركا أبداً ضدّ الصين مرّة ثانية، أو على الأقلّ ليس بالطريقة السابقة نفسها. بل على العكس، قد يرون في الصين شريكاً أفضل من الولايات المتحدة، وأكثر استقراراً على المدى الطويل». ويختم فريدمان، بالقول: «يا له من أداء بائسٍ، ومثير للشفقة، ومُخزٍ. مبروك عليكم التحرُّر… وكل تحرير وأنتم بخير!».
وفي قراءتها للأحداث التجارية المتصاعدة، تقول مجلة «فورين أفيرز» الأميركية إنّه فيما «تجبر الإدارة الحالية كل الدول حول العالم على الاختيار قسراً بين الولايات المتحدة والصين، على غرار ما حصل مع بنما، فإنّ هذا الخيار سيكون أصعب على الدول في آسيا، أكثر من أيّ مكان آخر. وفي حال أُجبرت بعض تلك الدول على الاختيار، وفقاً للمجلة، فسيتعيّن عليها أن تزن النفوذ الأميركي، وموثوقية وعود واشنطن، وعلاقاتها الاقتصادية مع الصين، والبدائل المحتملة عن الأخيرة، محذّرة من أن سياسة الإكراه الأميركية قد تأتي بـ«نتائج عكسية».
ويبرّر أصحاب هذا الرأي، موقفهم بالقول إنّ الدول الآسيوية التي تعتمد مبدأ «التحوّط » في المنافسة بين القوى العظمى، يجمعها مع بكين القرب الجغرافي، والعلاقات الاقتصادية الواسعة، فيما تتمتّع الصين بمهارة تحويل المشاركة الاقتصادية إلى مكسب استراتيجي طويل الأمد؛ وإذ يمكن الولايات المتحدة أن تجبر الدول على الاختيار، إلا أنّها قد «لا تستسيغ إجاباتها».
وعلى الرغم من أنّ واشنطن ضغطت، في السنوات الأخيرة، على حلفائها في المنطقة للانفصال عن بكين في قضايا محددة، مطالبةً، على سبيل المثال، بتقييد وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتطورة، واستبعاد الشركات الصينية من شبكات الكابلات تحت البحر، فقد كانت تلك الدول تتمتّع بهامش من الحرية للحفاظ على علاقات واسعة النطاق مع الجمهورية الشعبية، والاستفادة، في الوقت عينه، من المظلّة الأمنية الأميركية، فيما كان المسؤولون الأميركيون يطمئنون العواصم الأجنبية بأن واشنطن «لا تجبرها على الاختيار بين الطرفين».
وفي حين أن الشركاء الأميركيين الثلاثة لواشنطن، أي كوريا الجنوبية وتايوان واليابان، سيعملون بجدّ للحفاظ على الدور الأميركي، فإن الانفصال الاقتصادي الكامل عن الصين سيكون صعباً جدّاً؛ إذ تَعتبر سيول وتايبيه وطوكيو، الصين أكبر شريك تجاري لها، فيما يؤدي غياب القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب، إلى زعزعة العلاقات مع واشنطن. وطبقاً للمجلة الأميركية، وفي حال كان دفْع دول شمال شرق آسيا بعيداً عن الصين مهمّة «صعبة»، فإنّ الهدف المشار إليه سيكون أكثر صعوبة مع دول جنوب القارة، بعدما أغرق إرث الاستعمار وتشابكات الحرب الباردة، أجزاء من تلك المنطقة في منافسات القوى العظمى والحروب بالوكالة، وجعل العديد من دول جنوب شرق آسيا «حذرة» في ما يتعلّق بالانحياز بالكامل إلى قوّة كبرى واحدة.














