/محمد حمية/
فرض ملف ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة نفسه على جدول أولويات أركان الدولة، بعد رسوّ الباخرة “إنرجين باور” اليونانية ـ “الإسرائيلية” على تخوم الخط 29، في المنطقة المتنازع عليها بين لبنان والعدو الإسرائيلي.
تُظهر خريطة المواقف السياسية تجاه الملف، الانقسام في الموقف اللبناني، وتتراوح المواقف بين الداعي لتعديل مرسوم تعديل الحدود 6433 واعتماد الخط 29 كحدود رسمية مع فلسطين المحتلة وايداعها الأمم المتحدة، وبين الرافض ذلك حرصاً على الوساطة الأميركية وإحياء مفاوضات الناقورة والحفاظ على الاستقرار على الحدود، فيما خرق “حزب الله” المواقف وبعثر الخطوط وخلط الأوراق بإعلان أمينه العام السيد حسن نصر الله بأن المقاومة ستمنع العدو من استخراج الغاز من حقل “كاريش”، مقدماً هذا الهدف كأولوية على الخلاف على الخطوط.
رئيس الجمهورية
رئيس الجمهورية، المعني الأول بملف ترسيم الحدود باعتباره يتولى التفاوض في الاتفاقات والمعاهدات الدولية، وفق المادة 52 من الدستور، يواجه حملة سياسية وشعبية تضعه أمام خيارين أحلاهما مرّ:
– توقيع المرسوم 6433، وتحمل مسؤولية تداعياته على مسار ومصير الترسيم، لجهة: تجميد التفاوض، وانسحاب الوسيط الأميركي، وخسارة فرصة استثمار الثروة النفطية اللبنانية، وتهديد الاستقرار على الحدود، واحتمال تدحرج الوضع الى حرب عسكرية.
– الإبقاء على المرسوم في أدراج قصر بعبدا حتى سبر أغوار الوسيط الأميركي، وانتظار نتائج المفاوضات المقبلة إن فُعّلِت، وهذا قد يستجلب الاتهامات للرئيس ميشال عون بالتفريط بالحدود وبالحقوق السيادية والسماح للعدو باستباحتها.
لماذا يتريث عون بتوقيع المرسوم؟ ما هي المبررات والدوافع؟
يعود تجميد المرسوم إلى أسباب تقنية وقانونية وسياسية وعسكرية.
تشرح أوساط مقربة من بعبدا لموقع “الجريدة” أن الخط 29 مستحدث، واستند إلى دراسة أعدتها قيادة الجيش اللبناني العام الماضي، وليس خطاً للحدود الرسمية، والخط الوحيد المودع لدى الأمم المتحدة هو الخط 23، الذي رسمته حكومة الرئيس فؤاد السنيورة العام 2009 ثم ثبتته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2011 لدى الأمم المتحدة، أي 860 كلم وفق المرسوم 6433.
وتوضح الأوساط أن “تعديل الحدود يحتاج اجماعاً وطنياً عبر رئيس الجمهورية ومجلسي الوزراء والنواب، وهو غير متوفر حالياً، والأمر لم يعد فقط مسؤولية رئيس الجمهورية لوحده، وإن كان التفاوض في المعاهدات والاتفاقات الدولية من صلب مهامه الأساسية”.
النقطة المحورية في النقاشات المفتوحة في دوائر بعبدا، وفق معلومات “الجريدة”، تكمن في المترتبات والنتائج القانونية والتفاوضية والعسكرية، لتوقيع المرسوم.
فهل إن توقيع المرسوم وإيداعه الأمم المتحدة وتكريس الخط 29 كحدود لبنان الرسمية، سيردع “إسرائيل” عن الاستمرار بالتنقيب ويحمي الحقوق اللبنانية في المنطقة المتنازع عليها؟ وهل تلزم الأمم المتحدة “إسرائيل” بوقف أعمال الاستخراج في حقل “كاريش”؟ وهل تعترف “إسرائيل” أصلاً بالخط 29؟
توضح الأوساط أن توقيع المرسوم “قد يؤدي إلى خسارة ورقة تفاوضية في جعبة بعبدا، تضغط بها على الأميركيين لإعادة “إسرائيل” إلى طاولة التفاوض، لحل النزاع”.
تعتبر الرئاسة الأولى أن توقيع المرسوم يعني تعديل الحدود، والخط 29 أصبح خط الحدود وليس الخط التفاوضي، بالتالي أي تنازل في المفاوضات المقبلة عن “سنتم مكعب” هو تنازل عن الحدود وخيانة عظمى، وهناك في مكان ما من يريد توريط العهد في هذا الفخ. علماً أن أوساط الوفد المفاوض في الناقورة توضح أن جميع الدول ترسم حدودها البحرية استناداً الى قانون البحار، ومن ثم تقوم بتشريع ذلك داخلياً، وتذهب به الى التفاوض او الى التحكيم، وعند التوصل الى حكم او اتفاق نهائي بشأن هذه الحدود البحرية، تقوم كل دولة بتعديل حدودها.
وإذا كان لبنان سيُثبّت حدوده عند الخط 29.. فما هدف وجدوى المفاوضات؟ تعتقد أوساط بعبدا أنه بمجرد توقيع المرسوم، ستستغل “إسرائيل” الأمر وتصر على رفض العودة للتفاوض، كونها لا تعترف بالخط 23 فكيف بالخط 29؟ بالموازاة تأخذ الرئاسة على محمل الجد، الموقف الأميركي الذي أبلغ إلى الرؤساء والمسؤولين، بأن توقيع المرسوم سيعقد الأمور ويُصّعب العودة إلى التفاوض، وينسف الوساطة الأميركية، وبالتالي يعطل أي إمكانية للحل والأمل باستثمار لبنان ثروته.
وترسم بعبدا معادلة تستند الى عناصر قوة لبنان، وفي مقدمتها المقاومة وقوامها: لا غاز في “كاريش” مقابل “لا غاز في قانا”.
“حزب الله”
لم يقع “حزب الله” في شباك وتشابك واشتباك الخطوط، بل توغّل في عمق القضية، وأبحر في “باخرة المغامرة” في المياه الإقليمية، وباتت أولويته هي في كيفية مواجهة الخطر بمنع “إسرائيل” من استخراج وسرقة النفط والغاز في الحقول المتداخلة والمتصلة تحت الماء، ولم تعد الخطوط والحدود أولويته. وهذا ما أكده نصرالله في اطلالته الأخيرة بتحذير العدو من أن البدء بـ”شفط” أول “سنتم” من الغاز في “كاريش”، سيكون ساعة الصفر للتحرك العسكري للمقاومة وصاعك تفجير الحرب، ما يعني أن تموضع الضاحية على ضفاف الحدود، يفتح مسار الحرب العسكرية التي قد تقع في أي وقت يقرر العدو المضي بمشروع استخراج الغاز الذي يعده حيوياً واستراتيجياً في ظل أزمة الطاقة المتفجرة في العالم، ويعتبر أن الحفاظ على الثروة اللبنانية الغازية يستحق المغامرة والمخاطرة، حتى لو وقعت الحرب العسكرية، طالما أن استثمار لبنان لهذه الثروة يشكل فرصة للإنقاذ الاقتصادي وتفادي الانهيار والانفجار الاجتماعي، وكسر الحصار الأميركي على لبنان.
“إسرائيل”
أما العدو الإسرائيلي فيرمي شباكه في البحر اللبناني وطعم الخطوط لاصطياد “الطريدة النفطية” بهدوء، ويعمل على إلهاء اللبنانيين بالنزاع حول الخطوط والحدود، وتضييع الوقت بالوساطة الأميركية، والعودة التفاوض الذي تريده الغطاء الشرعي لاستمرار أعمال الاستخراج التي تدعي أنها ضمن المنطقة الإقليمية التابعة لها، وليس ضمن المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، أي خارج خط الحدود اللبنانية 23، علماً أنها لا تعترف به وتعترف بالخط 1 فقط. وبالتالي تمنح لنفسها الحق باستمرار أعمال الاستخراج طالما المفاوضات مستمرة ولم تصل الى حل للنزاع وترسيم الحدود.
الموقف الأميركي
السؤال الذي يعكس المستجد بالموقف الأميركي: هل أن الاندفاعة الأميركية عبر زيارة آموس هوكشتاين الى بيروت، والتوجه لتفعيل الوساطة الأميركية وإحياء التفاوض، تقتصر على الالتزام بالسياسة الأميركية الثابتة بدعم المصالح “الإسرائيلية” الأمنية والحيوية، أم تتعداه إلى مشروع أميركي ـ أوروبي جديد لاستجرار غاز ونفط البحر المتوسط الى أوروبا لإيجاد بديل عن الغاز الروسي، في ظل أزمة الطاقة العالمية بعد الحرب الأوكرانية الأميركية ـ الروسية؟ وهل تكون “إسرائيل” بوابة هذا المشروع؟