/ جورج علم /
خسرت سوريا، جزئياً، في لبنان. فقدت عدداً من مقاعدها في المجلس النيابي. غابت الوجوه – الرموز، ولم تتمكن من حصد حواصل كبيرة في الإنتخابات الأخيرة.
هكذا يقال. هذا ما يردده قارئو الفنجان، ومعهم رؤساء الكتل، والأحزاب، ومعظم المنخرطين بـ”المسرحيّة” السياسيّة.
لم نسمع أن الأميركييّن خسروا، أو الإيرانييّن، أو الخليجييّن، أو حتى الأوروبييّن، والفرنسيّين تحديداً. ما بات مسموعاً، أن السورييّن خسروا لحسابات محليّة، واعتبارات خارجيّة معقّدة، أفضت الى ما أفضت اليه من نتائج!
الطامة الكبرى أن لبنان هو الخاسر الأكبر. خسارته لا تعوّض. هناك لبنانيون نجحوا في الإنتخابات. لكن لبنان الوطن، الكيان، النظام، والهوية، كان الخاسر الأكبر. هذا ما يقوله الأميركي، والأوروبي، والعربي، والأعجمي. الكل رحّب بالإنتخابات، ومسارها، والكل يسأل اليوم، ويتساءل: وماذا بعد؟ ولبنان الى أين؟
كانت الأزمة متفاقمة قبل الإنتخابات، فاستفحلت بعدها. كان الإنهيار شديد الوطأة قبلها، فتهاوى بسرعة بعدها. ذهب أبناء الحرّة في زمن الحصاد الى البيادر الملأى بأكوام الحنطة، فوجدوا أبناء الجارية يتقاسمون ما تبقى من غلال في ما بينهم، وعلى قاعدة “في زمن الفجور، تغرف الصعاليك خبز التنور”!
توصّلت “الرعاية الدوليّة المشرفة على الإنتخابات” الى قناعة مفادها أن لبنان القضيّة كان الخاسر الأكبر، لأن السلاح أقوى من الإنتخابات، والفساد أيضاً، والإرتهان الى الخارج أيضاً وأيضاً، والداء الذي يضرب المفاصل الكبرى، أقوى من الدواء المرهم، والإنتخابات يمكن أن تشكّل حلاًّ، أو منفذاً، عند الدول العريقة بديمقراطيتها، وليس في دولة “كل من إيدو إلو”، حيث الإقطاعيات، والمقاطعات، والفئويات، والمحسوبيات، والطوائف، والمذاهب، والخصوصيات، هي الأرفع قدراً، والأشرف قدوة.
صبيحة اليوم التالي، إستيقظ العالم “الحريص” على مصالحنا، ليرى أن الدولار يحلّق، والتيار الكهربائي يحتضر، والإقتصاد ينهار، والوضع الإجتماعي ـ المعيشي يتفاقم، ولم يبق من أثر للإنتخابات سوى الصور المرصوفة على الحيطان، ويافطات الوعود الكاذبة.
صبيحة اليوم التالي، يقرّ العالم “الداعم للبنان”، بأن الإنتخابات قد نقلت البلد من الداهية الى الأدهى، ومن الأزمة الى المعضلة، ومن الضوء الخافت في نهاية النفق الطويل، الى الظلام الدامس.
صبيحة اليوم التالي فرض الواقع معادلته على الإستحقاق البرلماني، “نبيه برّي، ونقطة عالسطر”. والرسالة هنا، تفاعلت بإتجاهين:
الأول، “فائض القوّة” هو من يؤكد على متانة وحصانة “الثنائي الشيعي”، بمواجهة الآخرين، كل الأخرين، بدءاً من الحلفاء، وصولاً الى “الأعداء”!
والثاني، مواجهة كل الاستحقاقات المتبقيّة من موقع النباهة، والجدارة، والمقدرة، والمنفعة، والمصلحة التحالفيّة… فيما “التغيير” يبقى شعاراً أجوفاً، وصوتاً صارخاً في بريّة الوطن، لا جدوى منه، ولا حتى تراجيع صدى.
صبيحة اليوم التالي، إستفاقت “المجموعة الدولية لدعم لبنان” على حقائق ثلاث:
الأولى، الشغور الكبير في بنية النظام، وهيكليّة الدولة، والمؤسسات. شغور يضاهي الفراغ، وينبىء بأن “المصل الإنتخابي، لن ينقذ المريض. وهو أعجز من أن يمكّنه من الخروج من غرفة العناية الفائقة”! وإن الأزمة الى تفاقم، والمفاصل الى تفكك، والإرتطام الكبير حتميّ، خصوصاً إذا ما شعر أيّ محور خارجي بالخسارة، من بين مجموع المحاور المتحكّمة بالساحة الداخليّة!
وهنا تجوز المصارحة: يحقّ للفريق “السيادي” الواسع، أن ينتشي بغياب المحور السوري عن المجلس النيابي، وسقوط رموزه في الإنتخابات، ولكن هل يستطيع أن يشرح للبنانييّن كيف سيُخرج مليوني نازح سوري من لبنان، ويعيدهم الى ديارهم، ويحقق نصراً سياديّاً يتشاوف فيه على “حزب الله”، وسلاحه؟!
الثانية، إن المجلس، بتوازناته، وكتله، وتكتلاته، هو مجلس الإشتباك اليومي، والصدام الفعلي حول الملفات التي كانت مفتوحة قبل الإنتخابات، وتفاقمت بعدها. إنه المجلس المؤسس لحرب أهليّة، أو لمجموعة حروب “عالقطعة” في زمن الإستحقاقات الدستوريّة، خصوصاً ما يتعلق بالحكومة الجديدة، وتركيبتها السياسيّة، وبرنامج عملها، وبيانها الوزاري. هل سيقبل “السياديّون” بتضمين البيان مقولة “جيش، وشعب، ومقاومة”، والتي يصفها البعض بـ”المعادلة الذهبيّة”؟ ثم ماذا عن الإنتخابات الرئاسيّة؟ وهل لهذا اللفيف من الكتل المبعثرة، القدرة، والرغبة، والإستعداد على التفاهم لإختيار ربّان موثوق من قبل الجميع لقيادة سفينة الوطن الى بر الأمان، وهي التي تتهاوى بين لجج الغرق؟
ليس من حقائق دامغة، ولا من قناعات راسخة، لدى المجتمع الدولي، تؤهله التعويل على المجلس النيابي المنتخب وقدراته التغييريّة.
الثالثة، إن غالبية القوى السياسيّة تراهن على الخارج، عن فدائيّ منقذ، وعن يد ممدودة، عن خشبة إنقاذ، عن مبادرة معينة، أو مؤتمر عربي – دولي…
وهذا رهان ممكن، ولكن ليس في الأفق من معطى جدّي يبنى عليه، لأن العالم مأخوذ بحجم الأزمات المفتوحة من حوله، ويحاول “النفاذ بريشه” قدر المستطاع. روسيا منهمكة بالحرب ضد حلف “الناتو” بعدما تحوّلت أوكرانيا الى خط تماس، وساحاتها الى حقل إختبار للأسلحة الحديثة المتطورة. والولايات المتحدة تواجه الصين حول تايوان. وإسرائيل تواجه إيران في سوريا، وخارج سوريا على خلفيّة نشاطها النووي، فيما الدول الأوروبيّة، ومعها المجتمع الدولي يواجهان أزمات القمح، والغذاء، والطاقة، وجائحة كورونا، والجوائح الأخرى، وجديدها “جدري القرود”…
إن الإنسداد سمة المرحلة، أزمات العالم أمامنا، وأزمات الإقليم وراءنا، وأزماتنا في الداخل من “الدلفة الى تحت المزراب”، فأين المفر؟!…