/ جورج علم /
بعث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برسائل ثلاث الى اللبنانييّن، منذ إعادة إنتخابه: زيارة الجندي اللبناني الجريح في إحدى المستشفيات الباريسيّة. تعيين اللبنانية ـ الفرنسيّة، ريما عبد الملك، وزيرة للثقافة في حكومته الجديدة. والتطرق الى الموضوع اللبناني خلال إتصاله المطوّل مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الخميس الماضي، في ضوء الإنتخابات النيابيّة الأخيرة.
هناك اعتبارات فرنسيّة صافية أملت هذه الديناميّة، لكن التعليق الفرنسي الرسمي على الإنتخابات، لم يُقرأ بتمعن من قبل الجهات اللبنانية المختصة، وحمل ما بين سطوره تأكيدين:
- فرنسا مهتمة بلبنان، وإن إهتمامها بعد إعادة إنتخاب الرئيس ماكرون، هو من الأولويات.
- اهتمام فرنسا هذا ليس إستئثاراً، بل مروحة واسعة من الإتصالات مع جميع الدول المؤثّرة بالملف اللبناني، لتدوير الزوايا، والخروج من النفق المظلم!
إختار لهذه المهمّة كاترين كولونا، سفيرة فرنسا في لندن، لتخلف جان ـ إيف لودريان في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة. الأخير عمل بإخلاص، وتوصّل الى قناعة: “لبنان على حافة الهاوية”. مهمّة كولونا العمل على “إخراج لبنان من الهاوية”، وهي صاحبة خبرة واسعة في معالجة الملفات المعقّدة.
كانت كاترين كولونا في خطّ المواجهة خلال خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. وكانت في خطّ التسوية خلال التوترات بين باريس ولندن بشأن تراخيص الصيد. وكانت من أبرز الممسكين بالملف الأوكرانيّ، وأسهمت في إقناع الاليزيه أن يبقى على تواصل مع فريقي الأزمة.
لا تنقص كولونا المعرفة بخبايا وخفايا الملف اللبناني. فريق العمل الفرنسي الممسك بهذا الملف “أتمم عقد القنطرة”. تعرف باريس أن الإنتخابات جاءت بوجوه تغييريّة، إلاّ أنها تعتقد أن “التغيير الحقيقي لن يأتي من مجلس نيابي يرأسه نبيه بري الذي كان لعقود طويلة على رأس هرميّة هذه المؤسسة شريكاً مشاركاً في إنهيار لبنان”. كما أن “التغيير لن يأتي من أكثريّة موصوفة بشعاراتها السياديّة، لأن المسألة أبعد من الشعارات، ومن حسابات أكثريّة وأقليّة، وأصعب من أن تحلّها اللعبة الديمقراطيّة”.
أزمة لبنان. أزمة نظام “توافقي”، وأزمة فساد، وفاسدين، وأزمة سلاح خارج الدولة. إنها أزمة وطن تحول الى خط تماس في صراع المحاور.
وصل جان ـ إيف لودريان ، وبعد تجارب مريرة، الى قناعة مفادها أن “اللبنانييّن عاجزون، فإما يأتي حلٌّ من الخارج.. وإلاّ ضرب الميت حرام”!
وإستنادا الى “مسرحيّة” الإنتخابات، و”اللاعبون الجدد” الذين برزوا على المسرح، هناك مؤشرات لا بدّ من التوقف عندها:
الأولى، أن الثنائي الشيعي، وتحديداً “حزب الله”، إنتقل من الهجوم الى الدفاع. تهديداته بالويل والثبور، وعظائم الأمور، هو دليل ضعف. وتهويله بحرب أهليّة هو ذروة المغالاة في الوهم لأنه يدرك جيداً ـ وقبل الآخرين ـ بأن لا أحد يملك حرية الضغط على الزناد.
لكن، بالمقابل، فإن سلاحه لا يمكن معالجته عن طريق الشعارات التي يرفعها “التغييريّون والسيادييّون”، بل ضمن تسوية كبرى تشارك في صياغتها سقوف ثلاثة: سقف أممي، وآخر دولي، وثالث عربي ـ إقليمي.
الثانية، إن إصرار بريّ على العودة الى رئاسة المجلس تمليها ضرورات ثلاث: حماية حركة “أمل” من الإستهدافات الجنائية، المالية، القضائيّة، ولبعض رموزها ملفات مفتوحة. وحماية المكوّن الشيعي من مواجهات دامية بين أنصار الحركة، والحزب. والحرص على إانتزاع مكاسب للطائفة، وللحركة، في أي تسوية سياسيّة للوضع اللبناني.
الثالثة، إن المجلس النيابي، بتركيبته الجديدة، بتوازناته، وبأحجام الكتل الوافدة اليه، ليس أفضل حالاً من المنتهية ولايته. وإذا كان العجز سمة المرحلة السابقة في مواجهة الملفات المصيريّة، فإنه أيضاً سمة المرحلة الراهنة. صحيح أن هناك دماً جديداً، و”تغييرييّن”، لكن هذه الإضافات لا تغيّر كثيراً من المعادلة المعقدة التي فرضها الفساد، والسلاح غير الشرعي. قد تحمل الوجوه التغييريّة شهادات، وكفاءات، ولكنها لا تحمل خبرات في الحياة التشريعيّة.
ويبقى السؤال: من أين نبدأ؟
الإحتمالات المتداولة، تتمحور حول نماذج عدّة، منها:
- النموذج العراقي: جرت إنتخابات عامة قبل سبعة أشهر، ولكنها لم تنتج حلاً، ولا أدت الى إعادة بناء المؤسسات، بل الى فوضى عارمة. ولا يمكن للنموذج العراقي تطبيقه في لبنان الواقف عند شفير إنفجار إجتماعي كبير، قد يؤدي ـ في حال حصوله ـ إلى الإطاحة بما تبقى من سلم أهلي، وهيكليّة دولة، ونظام، ومؤسسات…
- النموذج القطري: أي دعوة الأطراف الى “دوحة – 2” ، للتفاهم على “سلّة متكاملة”ن من أولوياتها تفاهم على إنتخاب رئيس للجمهورية، وعلى تشكيل حكومة وفق المواصفات المطلوبة من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي…
- النموذج السعودي: أي “طائف آخر”، يشذّب و”يهذّب” بعض بنود “الطائف ـ الدستور” من الشوائب التي كشفتها الممارسة، ويخرج بتسوية كبرى يشارك فيها الممسكون بتلافيف الوضع اللبناني، ويكون بداية ومنطلقاً للخروج من النفق.
– أين تكمن فرنسا من كلّ هذا؟
إنها “المايسترو؟!”…