برودة خارجية في “انتخابات الأزمة”.. لكن “ملائكة” بومبيو حاضرة!

/ جورج علم /

إنتهى زمن “زي ما هيّ”. يغادر الكبار، وتغادر معهم مواقفهم، وشعاراتهم، وسلوكياتهم. لم يعد من كرسي خشبي في الزقاق الطويل يركن اليه شيخ هرم، ينتظر دوره أمام مركز الإنتخابات، ليدلي بـ”زي ما هيّ” في صندوقة الإقتراع.

غابت الطوابير الطويلة، والمسيرات الصاخبة، والشعارات الطنانة، عن شوارع بيروت، وطرابلس، وصيدا، والإقليم.

تغيّر المزاج الشعبي. فقدت الشهيّة الوطنيّة نكهتها، وخسرالإستحقاق ألقه، وتحوّلت الإنتخابات إلى “زي ما هيّ”: إنفصام وطني، وتحريض فئوي، وتجييش غرائزي، وتخوين، وتعنيف لفظي، وتجاوز لكل اللياقات والأدبيات الديمقراطيّة…

كانت لافتة، ولا تزال، البرودة الخارجيّة في التعاطي مع هذا الإستحقاق الساخن. إنها إنتخابات على مستوى، سفير، وقنصل، وقائم بأعمال، لا على مستوى رجل دولة، أو عاصمة قرار.

ليس في بيروت اليوم جيفري فيلتمان، ولا ديفيد ساترفيلد، او ديفيد هيل، او ديفيد شينكر. في بيروت اليوم السفيرة دوروثي شيا، والبيان المكتوب الذي قرأه وزير الخارجيّة مايك بومبيو في 22 آذار 2019، في قصر بسترس، بحضور وزير الخارجيّة والمغتربين جبران باسيل، والذي ضمّنه يومها أعنف هجوم على “حزب الله”.

لا تغيّير يذكر في عهد الرئيس جو بايدن، وبيان بومبيو لا يزال حيّاً يرزق، ويتكرر يوميّا من خلال المواقف االتي يطلقها “السياديّون”: من سمير جعجع، إلى سامي الجميّل، إلى ميشال معوض، وفارس سعيد، واللواء أشرف ريفي، وغيرهم…

المفارقة أن بومبيو حدد منذ الـ 2019، وجهة الانتخابات عندما قال: “إن لبنان وشعبه يواجهان بصراحة خياراً، إما المضي قدماً كشعب أبيّ، أو السماح لطموحات إيران وحزب الله السيئة بأن تسيطر وتهيمن عليه. وكما تعلمون إن لبنان دفع ثمناً باهظاً من أجل تحقيق إستقلاله”.

والمفارقة أيضاً، أن خريطة الطريق هذه، قد أصيبت بفجوات واسعة:

الأولى، أن خطاب بومبيو يومها، قد صيغت عباراته من انتفاضة 17 تشرين، وكانت في أوج تألقها. اليوم، إنقضى العزّ، وهمدت الهيصة، وأصبحت “الانتفاضة” يتيمة تستعطي على أبواب السفارات.

الثانيّة، كان الخطاب مسلحاً بعنجهية الرئيس ترامب، الذي شغل العالم بمواقفه الصادمة. خرج من الاتفاق النووي في الـ 2018، فارضاً أقسى العقوبات على إيران. اليوم هناك رئيس يقف عند أبواب طهران طالباً العودة إلى الاتفاق بشروط تحفظ له بعض ماء الوجه في الداخل. وما بين إدارة قويّة، وأخرى مترددة، فقد خطاب بومبيو في بيروت الكثير من صدقيته.

الثالثة، تراكمت على الخطاب مستجدات ترتّبت، بينها: إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020. زيارتان متتاليتان للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ولادة مبادرة فرنسيّة في قصر الصنوبر، بموافقة “حزب الله”. ومع ذلك بقي “السياديّون” أوفياء لمندرجات ذلك الخطاب، يستمدون منه الحجة، والقوة، ويحاولون من خلاله العبور بمركب الإنتخابات من ضفّة الى أخرى… فهل تحصل المعجزة؟

من الصعب التكهن. وما جرى في آذار 2019، قد لا يصحّ في أيار 2022. هناك سنوات تراكمت، ومستجدات طرأت، وأولويات تبدّلت. وهناك برودة دوليّة واضحة في التعاطي مع الاستحقاق الانتخابي.

لا يمكن التقليل من خطورة ما بلغته الأزمة الأوكرانيّة التي تقف اليوم على شفير حرب عالميّة ثالثة. لقد تحوّلت أوكرانيا إلى خط تماس بين روسيا من جهة، وحلف “الناتو” من حهة أخرى، مع المليارات من الدولارات التي تنفق لمدّ أوكرانيا بأسلحة غربيّة حديثة متطوّرة بهدف إختبارها في مواجهة الترسانة الروسيّة، وتحت شعار كسر هيبة الرئيس بوتن، وإرغام روسيا على رفع الرايات البيضاء.

ويتحدث رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون لمجلس النواب الأوكراني عن نصر قريب. والرئيس الأوكراني نفسه يتحدث عن هذا الإنتصار بعد إستقباله كلّاً من وزيري الخارجية والدفاع الأميركييّن، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، في كييف، ثم رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي التي وعدته بالموافقة على تمرير مشاريع القوانين الداعمة لبلاده.

ولا يمكن التقليل من احتمال إنقسام حلف “الناتو”، نتيجة الأزمة الأوكرانية، بعدما رفضت دول بارزة تحويل الإتحاد الأوروبي الى قاطرة يجرّها القطار الأميركي، والدليل سقوط المقترح الداعي الى تخلّي أوروبا عن الغاز الروسي، حيث وقفت المجر وألمانيا وفرنسا ضده بقوة، إستجابة لمصالحها الحيويّة.

ولا يمكن التقليل من بلوغ إيران عتبة إنتاج قنبلة نووية، بعدما توقفت مفاوضات فيينا أمام خيارين: التأجيل، أو الإنهيار.

إن لعبة “الهر والفأر” في مفاوضات فيينا، تجعل العالم أكثر تخوفاً من قفزة إيرانية مفاجئة نحو النادي النووي. وإن النبش في مدافن التاريخ الأوكراني، يحرّك خطوط الجغرافيا، ويجعل العالم قلقاً من أن يتجاوز الصراع كل الخطوط الحمراء!

ووسط هذه البرودة في التعاطي الدولي مع الحماوة الداخلية، تبقى شعارات بومبيو عناوين الحملة الإنتخابيّة. “السياديّون” يسددون على “الحزب”، وسلاحه، فيما “الحزب” يصوّب على روّاد حديقة عوكر، وسط تجاهل لافت من الصحافة العالميّة التي تنأى عن شعبويّة الإنتخابات، وتشعباتها، والدليل أن الخبر اللبناني أصبح محشوراً في زاوية المساعدات الدولية، وآخر أخبار الصندوق السعودي ـ الفرنسي، وبرامج الإغاثات، فيما ينهمك المراسلون بتتبع المستجدات التي قد تفضي الى نسف الإستحقاق في دقائقه الأخيرة، وآخر إنطباعاتهم، أنها ” إذا ما جرت ـ فهي “إنتخابات أزمة، لا إنتخابات الخروج من الأزمة”!